حوار مع الظل ...
تلفت حولي فلم أجد ظلي !!
رفعت بصري إلى السماء وإذا بالشمس في كبد السماء , ولا يوجد أي أثر لغيم أو سحاب , ثم تلفت حولي
فلم أجد ظلي .
سبحان الله! أين ذهب ؟, لقد كان يسير بجواري .. رجعت إلى الوراء باحثاً عن ظلي , فوجدته بقرب صخرة .
قلت له: أين أنت يا ظلي ...لماذا لم تتابع السير معي ؟
الظل : لقد مللت من ذلك.
قلت : وما السبب ؟!
الظل : لأنك ترغمني على أماكن لم أخلق لها , وإنك
تفعل أعمالاً في ظاهرها الإخلاص وفي باطنها الرياء , فيا ليتني لم أكن ظلك .
قلت : إنك تتمني فراقي , والناس يتمنون لقائي , فقد
أخطأت الحكم يا ظلي .
الظل : والله لم أخطأ .. فالناس يعرفون مظهرك , وأنا
أعرف مخبرك وجوهرك
قلت : وما قصدك من هذا الكلام ؟
الظل : قصدي أنت تعرفه جيداً
" فإن جواهر الأخلاق تفضحها المعاشرة "
والناس لا يعاشرونك مثلي " والخيل أعرف بفرسانها " ولو نظرت إلى قلبك لرأيت فيه
السواد .
قلت : وما سبب سواده ؟
الظل : هو عدم الإخلاص في الأعمال ,
والرياء في المعاملات .
قلت : وهل يؤثر هذا الخلق في القلب على هذه الدرجة ؟
الظل : نعم , فإن الإخلاص هو أصل العمل ، حتى
قيل في الأمثال " قل لمن لا يخلص لا تتعب " وقد أمر الله تعالى به بقوله : "
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين "
قلت : وهل تضرب لي مثلاً على ذلك ؟
الظل : لا بأس , ولكن تدبر ما أقول : " إن الشجرة إذا
تبين عروقها , انقطعت عن شربها , وجف ورقها , ولم تثمر , وذهب قدر قيمتها .. أما إذا غاصت عروقها , كثر
شرابها فاخضر ورقها , وطاب ثمرها , وكثر قدر قيمتها .."
قلت : ولكن هذا الأمر شديد على نفسي !!
الظل : صدقت , لأن النية من أكبر الأبواب التي
يدخلها الشيطان , فيفسد على المرء عمله , ولهذا قال سفيان – رحمة الله – " ما عالجت شيئاً أشد علىٌ
من نيتي "
قلت: ولكن الناس لا يعرفون أنني مراءٍ .
الظل : وهل أنت ممن يتعاملون مع الناس , أم مع رب
الناس ؟ .. فالله تعالي لا تخفى عليه خافية " فالكل مكشوف عنده يوم القيامة مكشوف الجسد , مكشوف
النفس , مكشوف الضمير , ومكشوف العمل , وتسقط جميع الأستار , التي كانت تحجب الأسرار , وتتعرى
النفوس و تعرى الأجساد "فلا ينفعك الناس يومئذٍ يا صاحبي , بلى أخلص في عملك , وأخفي عبادتك ,
حتى لا يحرق الشيطان عليك حسناتك , كما كان يفعل بعض الصالحين " وقد صام أربعين سنة لا يعلم به
أحد , كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان , فيتصدق بهما ويصوم , فيظن أهله أنه أكلهما , ويظن أهل
سوقه أنه أكل في بيته "
قلت : لقد غيرت نظرتي لنفسي يا ظلي .. ولكن ما هي
علامات المرائي ؟
الظل : قال على بن أبي طالب – رضي الله عنه – "
للمرائي ثلاث علامات :
1-يكسل إذا كانت وحده .
2-وينشط إذا كان مع الناس .
3-ويزيد في العمل إذا أثنى عليه وينقص إذا ذم .
قلت : يا حسرتي .. لقد ضاعت أعمالي .
الظل : جدد العزم , وجدد العهد مع الله تعالى ,
واسأل الله دائماً الإخلاص في العمل , حتى يبارك لك الله في أعمالك كما بارك لعمر بن عبد العزيز رحمه الله
.
قلت : وكيف بارك الإخلاص في شخصية الخليفة الخامس
؟!
الظل : لقد وصف هشام بن عبد الملك ابن عمة عمر
بن عبد العزيز الأموي – رحمة الله – فقال :
" ما أحسب عمر خطا خطوة قط إلا وله فيها نية " ولذلك استطاع عمر بن عبد العزيز في أقل من سنتين
تقويم اعوجاج جبلين , وعلى داعية الإسلام اليوم أن لا يستكبر عظم الانحراف الذي عم بلاء الإسلام , فأنه
إن قرن كل خطوة بينة مثل الراشد الخامس سيهزم حزبين بأذن الله في أقل من سنتين.
قلت بعد تفكير وتدبر : إن كلامك ليحرك الجبل من مكانه
وإني سأتحرك " بنية " إنشاء الله .
الظل : فأبدأ يا صاحبي بمجاهدة نفسك على
الإخلاص , وتحرك بنية قبل أن يحرقك ظلك .
قلت مستغرباً : ماذا تقول ؟! وهل الظل يحرق ؟
الظل : نعم يا صاحبي .. لأن هناك نوعين من الظل :
1- ظل مذموم : وهو في قول الله تعالى : " فانطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ,لا ظليل ولا يغني من اللهب "
" أي انطلقوا على ظل دخان جهنم المتشعب ( لا ظليل ) أي لا يقي حر ذلك
اليوم ( ولا يغني من اللهب ) أي ولا يدفع من حر النار شيئاً "
2- وظل محمود: وهو ظل الجنة لقوله تعالى : " في سدرٍ مخضودٍ, وطلح منضودٍ , وظل ممدودٍ , وماءٍ
مسكوبً " " والجنة كلها ظل لا شمس فيها "
فاختر أي الظلين شئت يا صاحبي .
وقل لمن لا يخلص لا تتعب .
وتراب الإخلاص خير من زعفران الرياء
من كتاب" حوارات ايمانية " للدكتور : جاسم المطوع معد حصة "البيوت السعيدة "
تعليق