المخاطر الصحية للمبيدات : تحذير واجب
د. محمد أشرف البيومي
أستاذ الكيمياء الطبيعية بجامعة الإسكندرية وجامعة ولاية متشجان (سابقاً)
عرضت قناة التليفزيون البريطانية منذ بضعة أيام (19 مايو) تقريراً حول تفشي الأمراض السرطانية بولاية البنجاب الهندية بسبب المبيدات المستخدمة في الزراعة هناك، كما أبرز التقرير الأثر الكبير والواضح لهذه المبيدات علي ال dna وهي الجزيئات التي تتحكم في العوامل الوراثية في خلايا جميع الكائنات. هذه الأبحاث التي قامت بها د. سابت كور بجامعة البنجاب بالهند أكدت أن جزيئات مبيدات مستخدمة في الزراعة تتداخل مع ال dna مما يؤدي إلي أخطاء في وظيفتها ويجعل الخلية سرطانية. يؤكد هذا البحث أن هذه المبيدات وليست عوامل أخري مثل التدخين هي السبب المباشر في التشويه الملحوظ لل dna.
ذكرني هذا التقرير بالحديث الذي أجرته صحيفة "المصري اليوم" في 10 أكتوبر الماضي مع د. مصطفي كمال طلبة رئيس لجنة المبيدات، والذي لم أتمكن لأسباب خارجة عن الإرادة من التعليق عليه في حينه. ولخطورة بعض ما ورد في هذا اللقاء من مقولات متناقضة تماما مع حقائق علمية ومن مفاهيم غير مقبولة أجد لزاماً عليّ تصحيحها خصوصاً وأن قضية المبيدات تحظى باهتمام كبير لعلاقتها القوية بصحة المواطنين مما يفسر استمرار طرحها من حين لآخر في وسائل الإعلام المحلية والدولية وفي مجلس الشعب. تمتد مسئوليتي للتصدي لهذا الموضوع لمعرفتي المباشرة للتأثيرات الضارة لبعض المركبات الكيمائية، ومنها مبيدات، من خلال تدريسي بيوفيزياء جزيئية وتحديداً تداخل هذه الجزيئات مع البروتينات وال dna بجامعة ولاية متشجان الأمريكية، وكيف يؤدي هذا إلي تغيير وظائفها العادية في أغلب الحالات.
سأعتمد في هذا المقال علي العديد من الأبحاث والمراجع العلمية المنشورة ذات الطابع الأكاديمي ولقاءات مع أساتذة بجامعة الإسكندرية متخصصين في بحوث المبيدات علي مدي عقود طويلة ومساهمين سابقين في اللجان المشرفة علي استخدامات المبيدات في مصر، كما سأبين بعض التناقضات بين المقولات نفسها التي وردت في اللقاء. أرجو من الدكتور طلبة الذي أعرفه منذ أكثر من أربعين عاما أن يتناول ملاحظاتي حتى وإن جاء بعضها متسماً بالصراحة الكاملة وبموضوعية العلميين الملتزمين، بل أناشده أن يصحح ما جاء علي لسانه خصوصاً وأنه في موقع المسئولية كرئيس لجنة المبيدات، لعل ما نشر لم يكن معبراً بدقة عما يقصده فيعطي بذلك مثالا حيا علي ماهية المنهج العلمي وأدبياته.
المبيدات والغذاء
تتلوث الأغذية المتداولة بالمبيدات عن طريق رش المحاصيل الزراعية ومعاملة البذور والتقاوي وحفظ المنتجات الزراعية، وعن طريق مياه الري الملوثة. وتصل نسبة الأغذية المحتوية علي مستويات أعلي من المسموح به في الدول النامية إلي 25 % بالمقارنة إلي 1,5% في الدول المتقدمة "صناعياً"، بينما تصل النسبة الخالية من متبقيات المبيدات إلي 80 % في الدول الصناعية و3% فقط في الدول النامية. لهذا فأي استنتاج أو تعميم مستند إلي دراسات وتقارير حول تأثير المبيدات علي الصحة في الدول الصناعية ليس له أي معني أو مصداقية. ومتبقيات المبيدات الكلورية ( التي تذوب في الدهون) مثل ال ددت تظهر في الأنسجة وفي اللبن البشري، علماً بأن مستويات تواجدها انخفض مؤخرا في البلاد التي أوقفت استعمالها. وحسب دراسة السيد ونصار ونعمة الله المنشورة عام 2002 والمذكورة في كتاب هام للدكتور محمد السعيد الزميتي: "الحد من مخاطر تعرض الأطفال للمبيدات من الأغذية المتداولة بالأسواق" المنشور عام 2007 فإن متبقيات المبيدات الكلورية( ددت وسادس كلور الهكسان الحلقي وغندرين وديلدرين) ظهرت في لبن الصدر في عينات من محافظات مصرية مثل أسيوط وكفر الشيخ والبحيرة والإسكندرية والقليوبية والقاهرة ولكن بمستويات أقل من المسموح بتناوله يوميا حسب أرقام منظمة fao.
وحيث أن موضوع المبيدات ذات جوانب متعددة لا يمكن أن أتطرق لها في هذا المجال فإنني سأكتفي بالرد علي تساؤلات محددة تهم غالبية المواطنين بشكل مباشر وسأتجنب استخدام مصطلحات وتفصيلات علمية لا تؤثر علي بلورة رأي مستنير.
• هل مقولة أنه " ليس هناك أي ارتباط بين المبيدات والإصابة بالسرطان" صحيحة ؟
الحكم علي أن مبيد غير مسرطن وان دواء غير مضر للإنسان أو العكس يخضع لبروتوكولات قياسية متفق عليها دولياً وتشمل دراسات طويلة المدي لتقويم المخاطر منها اختبارات علي حيوانات المعامل ودراسات وبائية علي الإنسان. وبناء علي هذه الدراسات، صنفت المبيدات حتى عام 1996 في أربع مجموعات علي أساس قيمة الجرعة النصفية القاتلة ld50 أي الجرعة التي تقتل نصف الحيوانات المعملية :
مجموعة ا : فائقة الخطورة أي مسرطنة للإنسان لوجود أدلة كافية من الدراسات الوبائية
مجموعة ب: متوسطة الخطورة أي محتمل سرطانيتها للإنسان لوجود أدلة كافية من تجارب الحيوانات المعملية ولكن هناك أدلة محدودة من الدراسات الوبائية وتنقسم هذه المجموعة إلي ب1 و ب2 حسب نتائج ونوعية الدراسات الوبائية،
مجموعة ج: قليلة الخطورة ومحتمل سرطانيتها للإنسان لوجود أدلة محدودة علي سرطانيتها في الحيوانات وليس هناك معلومات علي الإنسان
مجموعة د: ليس هناك خطورة معروفة وغير مصنفة كمسرطنة لأن الأدلة غير وافية أو لغياب بيانات، وهناك أدلة علي أنها غير مسرطنة علي الأقل في دراستين مقبولتين علي صنفين من الحيوانات أو دراسات وبائية مقبولة و علي الحيوانات أيضاً.
عدلت هذه التقسيمات بعض الشيء عام 2005 حسب درجة سرطنتها للإنسان: مسرطنة، محتمل سرطنتها، إشارات بأنها مسرطنة، معلومات غير كافية أو متضاربة.
فإذا كانت هناك مثل هذه التصنيفات التي يمكن للمواطن الرجوع إليها من خلال الشبكة الإلكترونية (تقرير منظمة حماية البيئة الأمريكية بعنوان: "المبيدات- الصحة والأمان،24يوليه 2007) فكيف إذاً يقال أنه " ليس هناك أي ارتباط بين المبيدات والإصابة بالسرطان"؟ كما جاء علي لسان الدكتور طلبة. هناك خضم من الأبحاث والدلائل العلمية علي أن هناك مركبات معينة تسبب السرطان ، بل أن هناك بحوث حول كيفية حدوث ذلك. بعض هذه المركبات يستخدم كمبيدات والبعض الآخر يضاف للأغذية كالنترات التي تضاف لللحوم المحفوظة لأنها تتفاعل مع مركبات أخري في الغذاء فتتحول إلي النيتروسامينات المسببة للسرطان، و كبعض الأصباغ التي تضاف للأغذية لإعطائها ألواناًً زاهية مثل الصبغة الحمراء رقم 2 والتي منع استخدامها في الولايات المتحدة عام 1976.
• هل دخلت مصر مبيدات مسببة للسرطان؟ وهل لا زال يستخدم بعضها؟
بالتأكيد أن مبيدات مسببة للسرطان قد دخلت مصر و أنه لا زالت هناك مبيدات متداولة رغم أنها محظورة. سأكتفي في هذا المجال بذكر المعلومات الآتية للتدليل علي صحة هذين الاستنتاجين:
نشرت الأهرام الاقتصادي مقالاً لي بعنوان"قضية رش المصريين بالمبيدات" وكانت المناسبة وقتئذ خبر نشرته مجلة ديرشبيجل الألمانية حول قيام شركة سيبا-جايجي السويسرية للأدوية برش مبيد الجاليكرون علي أطفال وشبان مصريين لمعرفة آثار المبيد علي الإنسان. ورغم معرفة الشركة مسبقاً أن هذا المبيد يسبب أوراماً سرطانية لفئران التجارب فقد قامت الشركة بتوزيع المبيد في دول نامية مثل المكسيك بعد أن كانت قد سحبته قبل ذلك بأربع سنوات. أكدت في نهاية المقال بضرورة الرقابة الصارمة لمنع استخدام مبيدات تسبب السرطان. وفي مقال آخر بنفس المجلة بعنوان "عودة إلي مأساة المبيدات السرطانية" أكدت مرة أخري علي ضرورة تشكيل لجنة "محايدة" تجمع متخصصين في مجالات مختلفة ومواطنين مهتمين بالموضوع لتحديد استخدامات المبيدات والرقابة اللازمة بهدف حماية صحة المواطنين. كان ذلك في أواخر1982 وأوائل 1983 أي منذ أكثر من ربع قرن! ولا زالت مأساة المبيدات مستشرية وتدمر صحة الآلاف من المواطنين وعلي الأخص الذين يتعاملون مباشرة مع المبيدات.
وحسب ما جاء في كتاب الدكتور نجد أن حوالي 24% من العينات احتوت علي متبقيات وأن حوالي 2,6% تعدت الحدود القصوي "المسموح" بها. يذكر الكتاب متبقيات لمبيدات موجودة بنسب تفوق كثيراً المسموح به: مثلاً بروفينفوس بالطماطم و فينتروثيون بالخيار و كلوروبيريفوس بالفلفل الأخضر وددت وفينتروثيون وكلوربيريفوس وميثيل بيريميفوس وبروفينفوس بالبطاطس و ليندين(سادس كلوروالهكسان الحلقي) وددت ومشتقاته مركبات البيفينيل عديدة الكلور وهبتاكلور وإندرين وديلدرين بالأسماك وددت وهبتاكلور وديلدرين وإندرين وليندين بصفار البيض والداي ثيو كربامات في العنب. كذلك فإن بعض المبيدات العالية خطورة مثل الميثوميل والفائقة الخطورة مثل سادس كلوريد البنزين وجدت متبقياتها في الأغذية، وجدت أيضاً مبيدات تقع في مجموعة ب والمحتمل سرطانيتها للإنسان، رغم القول بأنها محظورة بمصر! مثلاً وجدت متبقيات للكلوروثالونيل وبروسيمدون بالطماطم وهناك أمثلة عديدة أخري.
إن اكتشاف متبقيات لمبيدات ممنوع تداولها في عينات غذائية مجمعة من محافظات مختلفة بمصر حتي عام 2003 يدل علي أن مبيدات محظورة لا تزال تستخدم وكما استنتج دغيم وجدا الله والمرصفي في بحثهم المنشور في 2001 "بأنه لا يوجد محظور أو مقيد من المبيدات".
• ما مدي انطباق تقارير حول استخدامات المبيدات في دولة مثل فرنسا علينا هنا في مصر من حيث طرق ومدي التزام بتعليمات الاستخدام ونوعية المبيدات المستعملة ؟
قال الدكتور طلبة في حديثه "وبالتالي يتم الاستناد إلي بيانات مركز بحوث السرطان التابع لمنظمة الصحة العالمية ومقره باريس، والذي أصدر دراسة منذ ما يقرب من شهر تتحدث عن السرطان في فرنسا وباقي دول العالم ....تؤكد أنه لا توجد دلائل علي الارتباط بين المبيدات والسرطان، وقد عملت بالأمم المتحدة 20 سنة، وأعلم جيداً أن أي بيان يصدر عن هذه المنظمات الدولية يكون "صوابا ألف في المائة". وبالنظر إلي التقرير نجد أنه يحمل العنوان "أسباب السرطان في فرنسا" وأن التقرير لا علاقة له ببلدان أخري فكيف يقول الدكتور طلبة في حديثه "وباقي دول العالم" ؟ خصوصاً وأنه أكد في حديثه علي ضرورة التحقق من المعلومات قبل أن تصل للمواطنين حرصاً علي الصالح العام، وتجنباً لإثارة البلبلة في قضية حساسة.
وبصرف النظر عن دقة استنتاجات التقرير خصوصاً وأنني لا أعرف التفاصيل العلمية و المنهج التجريبي المتبع حتى أقيمه علمياً فإنه لا ينطبق علي مصر بأي حال من الأحوال. فالمبيدات المستخدمة وطريقة استخدامها تختلف كثيراً بين حالة مصر وفرنسا. د. طلبة في نفس الحديث يؤكد علي ذلك فهنا بمصر ليس هناك التزام بنسب تركيز المبيد وفترات الرش والحصاد وارتداء ملابس واقية وكمامات للذي يقوم بالرش...الخ
• هل صحيح أن أي بيان يصدر عن المنظمات الدولية بشأن المبيدات يكون "صوابا ألف في المائة" ؟
إن الثقة العمياء في التقارير الدولية (أو أي تقرير علمي) يعني أن هناك حياد مطلق ودقة قياس مثالية وأن كل العوامل المنظورة والغير منظورة أخذت في الاعتبار وهذا الأسلوب مرفوض في الدوائر العلمية. إن كل تقرير علمي مهما كان مقام الجهة التي تصدره، لا بد وأن يخضع للتقييم والنقد العلمي. باختصار فإن الحديث عن صواب المائة في المائة كلام غير علمي أم صواب الألف في المائة فهو كلام نقيض للعلم. إن تطور العلم هو عملية متواصلة من البحث ثم التقييم الذي يؤدي إلي مزيد من البحث والتدقيق فيؤكد بعض النتائج ويخطأ البعض الآخر وهكذا يتقدم العلم أما التسليم مسبقاً بالنتائج في غياب فحص نقدي فهذا خارج نطاق العلم ويقع في نطاق منطق الأيمان، هكذا يوضح المتخصصون في فلسفة العلم. فاعتبار إصدارات المنظمات الدولية كأنها منزّلة أو مقدّسة مناف تماماً للمنهج العلمي. علماً بأن التقرير نفسه لا يزعم انطباقه علي الوضع في مصر،و لا يصح تحميل التقرير ما لم يدعيه.
هل من المقبول، كما جاء في الحوار، القول بأنه" إذا كانت هناك نسبة إصابة بالسرطان واحد في الألف فلا ينبغي أن أحدث بها كل هذا التوتر في المجتمع المصري"
لا أستطيع أن أخفي دهشتي الكبيرة لهذا القول الذي جاء علي لسان من يعلن حرصه علي الصالح العام كما قال فواحد في الألف من المجتمع المصري الذي يشكل حوالي 75 ألف مواطن هو جزء مهم من الصالح العام. هؤلاء هم مواطنون: إخوة، أبناء، أمهات، جدود، أطفال لهم نفس حقوق الإنسان من أجل صحة جيدة ومعيشة كريمة كما تنص مؤسسات ومواثيق الأمم المتحدة التي عمل بها د.طلبة. إن هذا الكلام مرفوض بالقطع ولا سيما أنه يجيء ، علي لسان مسئول في الدولة ومهتم بقضايا البيئة دولياً، أتمني أن يكون هناك سوء فهم ما وأن هذا التعبير القاسي لم يكن مقصوداً.
• هل يطمئن المواطن لاختيارات لجنة المبيدات الحالية ؟ بصراحة وتعبيراً عن نفسي فأنا لا أطمئن لهذه اللجنة من حيث تشكيلها فهي لا تضم ممثلين عن المستهلك والأمهات والمستخدم المباشر للمبيدات، كما أن ما جاء علي لسان رئيسها يجعلني أن أطالب باستقالة اللجنة وتشكيل لجنة أفضل تمثيلاً بحيث تكون صحة المواطن هي الأولوية وألا يكون أحد من أعضائها بما فيهم المتخصصين من له مصالح مع شركات المبيدات. تجيء هذه المطالبة رغم أن احتمال الاستجابة لها قريبة من الصفر لإدراكي بطبيعة السلطة السياسية الحاكمة. تبقي المطالبة الشعبية القوية والمستمرة والمستندة علي الحقائق والمعلومات العلمية، خصوصاً أن بعض إن لم يكن كثيراً من الضرر يمكن تجنبه.
* نشرأيضا بجريدة البديل18 يونية 2008
د. محمد أشرف البيومي
أستاذ الكيمياء الطبيعية بجامعة الإسكندرية وجامعة ولاية متشجان (سابقاً)
عرضت قناة التليفزيون البريطانية منذ بضعة أيام (19 مايو) تقريراً حول تفشي الأمراض السرطانية بولاية البنجاب الهندية بسبب المبيدات المستخدمة في الزراعة هناك، كما أبرز التقرير الأثر الكبير والواضح لهذه المبيدات علي ال dna وهي الجزيئات التي تتحكم في العوامل الوراثية في خلايا جميع الكائنات. هذه الأبحاث التي قامت بها د. سابت كور بجامعة البنجاب بالهند أكدت أن جزيئات مبيدات مستخدمة في الزراعة تتداخل مع ال dna مما يؤدي إلي أخطاء في وظيفتها ويجعل الخلية سرطانية. يؤكد هذا البحث أن هذه المبيدات وليست عوامل أخري مثل التدخين هي السبب المباشر في التشويه الملحوظ لل dna.
ذكرني هذا التقرير بالحديث الذي أجرته صحيفة "المصري اليوم" في 10 أكتوبر الماضي مع د. مصطفي كمال طلبة رئيس لجنة المبيدات، والذي لم أتمكن لأسباب خارجة عن الإرادة من التعليق عليه في حينه. ولخطورة بعض ما ورد في هذا اللقاء من مقولات متناقضة تماما مع حقائق علمية ومن مفاهيم غير مقبولة أجد لزاماً عليّ تصحيحها خصوصاً وأن قضية المبيدات تحظى باهتمام كبير لعلاقتها القوية بصحة المواطنين مما يفسر استمرار طرحها من حين لآخر في وسائل الإعلام المحلية والدولية وفي مجلس الشعب. تمتد مسئوليتي للتصدي لهذا الموضوع لمعرفتي المباشرة للتأثيرات الضارة لبعض المركبات الكيمائية، ومنها مبيدات، من خلال تدريسي بيوفيزياء جزيئية وتحديداً تداخل هذه الجزيئات مع البروتينات وال dna بجامعة ولاية متشجان الأمريكية، وكيف يؤدي هذا إلي تغيير وظائفها العادية في أغلب الحالات.
سأعتمد في هذا المقال علي العديد من الأبحاث والمراجع العلمية المنشورة ذات الطابع الأكاديمي ولقاءات مع أساتذة بجامعة الإسكندرية متخصصين في بحوث المبيدات علي مدي عقود طويلة ومساهمين سابقين في اللجان المشرفة علي استخدامات المبيدات في مصر، كما سأبين بعض التناقضات بين المقولات نفسها التي وردت في اللقاء. أرجو من الدكتور طلبة الذي أعرفه منذ أكثر من أربعين عاما أن يتناول ملاحظاتي حتى وإن جاء بعضها متسماً بالصراحة الكاملة وبموضوعية العلميين الملتزمين، بل أناشده أن يصحح ما جاء علي لسانه خصوصاً وأنه في موقع المسئولية كرئيس لجنة المبيدات، لعل ما نشر لم يكن معبراً بدقة عما يقصده فيعطي بذلك مثالا حيا علي ماهية المنهج العلمي وأدبياته.
المبيدات والغذاء
تتلوث الأغذية المتداولة بالمبيدات عن طريق رش المحاصيل الزراعية ومعاملة البذور والتقاوي وحفظ المنتجات الزراعية، وعن طريق مياه الري الملوثة. وتصل نسبة الأغذية المحتوية علي مستويات أعلي من المسموح به في الدول النامية إلي 25 % بالمقارنة إلي 1,5% في الدول المتقدمة "صناعياً"، بينما تصل النسبة الخالية من متبقيات المبيدات إلي 80 % في الدول الصناعية و3% فقط في الدول النامية. لهذا فأي استنتاج أو تعميم مستند إلي دراسات وتقارير حول تأثير المبيدات علي الصحة في الدول الصناعية ليس له أي معني أو مصداقية. ومتبقيات المبيدات الكلورية ( التي تذوب في الدهون) مثل ال ددت تظهر في الأنسجة وفي اللبن البشري، علماً بأن مستويات تواجدها انخفض مؤخرا في البلاد التي أوقفت استعمالها. وحسب دراسة السيد ونصار ونعمة الله المنشورة عام 2002 والمذكورة في كتاب هام للدكتور محمد السعيد الزميتي: "الحد من مخاطر تعرض الأطفال للمبيدات من الأغذية المتداولة بالأسواق" المنشور عام 2007 فإن متبقيات المبيدات الكلورية( ددت وسادس كلور الهكسان الحلقي وغندرين وديلدرين) ظهرت في لبن الصدر في عينات من محافظات مصرية مثل أسيوط وكفر الشيخ والبحيرة والإسكندرية والقليوبية والقاهرة ولكن بمستويات أقل من المسموح بتناوله يوميا حسب أرقام منظمة fao.
وحيث أن موضوع المبيدات ذات جوانب متعددة لا يمكن أن أتطرق لها في هذا المجال فإنني سأكتفي بالرد علي تساؤلات محددة تهم غالبية المواطنين بشكل مباشر وسأتجنب استخدام مصطلحات وتفصيلات علمية لا تؤثر علي بلورة رأي مستنير.
• هل مقولة أنه " ليس هناك أي ارتباط بين المبيدات والإصابة بالسرطان" صحيحة ؟
الحكم علي أن مبيد غير مسرطن وان دواء غير مضر للإنسان أو العكس يخضع لبروتوكولات قياسية متفق عليها دولياً وتشمل دراسات طويلة المدي لتقويم المخاطر منها اختبارات علي حيوانات المعامل ودراسات وبائية علي الإنسان. وبناء علي هذه الدراسات، صنفت المبيدات حتى عام 1996 في أربع مجموعات علي أساس قيمة الجرعة النصفية القاتلة ld50 أي الجرعة التي تقتل نصف الحيوانات المعملية :
مجموعة ا : فائقة الخطورة أي مسرطنة للإنسان لوجود أدلة كافية من الدراسات الوبائية
مجموعة ب: متوسطة الخطورة أي محتمل سرطانيتها للإنسان لوجود أدلة كافية من تجارب الحيوانات المعملية ولكن هناك أدلة محدودة من الدراسات الوبائية وتنقسم هذه المجموعة إلي ب1 و ب2 حسب نتائج ونوعية الدراسات الوبائية،
مجموعة ج: قليلة الخطورة ومحتمل سرطانيتها للإنسان لوجود أدلة محدودة علي سرطانيتها في الحيوانات وليس هناك معلومات علي الإنسان
مجموعة د: ليس هناك خطورة معروفة وغير مصنفة كمسرطنة لأن الأدلة غير وافية أو لغياب بيانات، وهناك أدلة علي أنها غير مسرطنة علي الأقل في دراستين مقبولتين علي صنفين من الحيوانات أو دراسات وبائية مقبولة و علي الحيوانات أيضاً.
عدلت هذه التقسيمات بعض الشيء عام 2005 حسب درجة سرطنتها للإنسان: مسرطنة، محتمل سرطنتها، إشارات بأنها مسرطنة، معلومات غير كافية أو متضاربة.
فإذا كانت هناك مثل هذه التصنيفات التي يمكن للمواطن الرجوع إليها من خلال الشبكة الإلكترونية (تقرير منظمة حماية البيئة الأمريكية بعنوان: "المبيدات- الصحة والأمان،24يوليه 2007) فكيف إذاً يقال أنه " ليس هناك أي ارتباط بين المبيدات والإصابة بالسرطان"؟ كما جاء علي لسان الدكتور طلبة. هناك خضم من الأبحاث والدلائل العلمية علي أن هناك مركبات معينة تسبب السرطان ، بل أن هناك بحوث حول كيفية حدوث ذلك. بعض هذه المركبات يستخدم كمبيدات والبعض الآخر يضاف للأغذية كالنترات التي تضاف لللحوم المحفوظة لأنها تتفاعل مع مركبات أخري في الغذاء فتتحول إلي النيتروسامينات المسببة للسرطان، و كبعض الأصباغ التي تضاف للأغذية لإعطائها ألواناًً زاهية مثل الصبغة الحمراء رقم 2 والتي منع استخدامها في الولايات المتحدة عام 1976.
• هل دخلت مصر مبيدات مسببة للسرطان؟ وهل لا زال يستخدم بعضها؟
بالتأكيد أن مبيدات مسببة للسرطان قد دخلت مصر و أنه لا زالت هناك مبيدات متداولة رغم أنها محظورة. سأكتفي في هذا المجال بذكر المعلومات الآتية للتدليل علي صحة هذين الاستنتاجين:
نشرت الأهرام الاقتصادي مقالاً لي بعنوان"قضية رش المصريين بالمبيدات" وكانت المناسبة وقتئذ خبر نشرته مجلة ديرشبيجل الألمانية حول قيام شركة سيبا-جايجي السويسرية للأدوية برش مبيد الجاليكرون علي أطفال وشبان مصريين لمعرفة آثار المبيد علي الإنسان. ورغم معرفة الشركة مسبقاً أن هذا المبيد يسبب أوراماً سرطانية لفئران التجارب فقد قامت الشركة بتوزيع المبيد في دول نامية مثل المكسيك بعد أن كانت قد سحبته قبل ذلك بأربع سنوات. أكدت في نهاية المقال بضرورة الرقابة الصارمة لمنع استخدام مبيدات تسبب السرطان. وفي مقال آخر بنفس المجلة بعنوان "عودة إلي مأساة المبيدات السرطانية" أكدت مرة أخري علي ضرورة تشكيل لجنة "محايدة" تجمع متخصصين في مجالات مختلفة ومواطنين مهتمين بالموضوع لتحديد استخدامات المبيدات والرقابة اللازمة بهدف حماية صحة المواطنين. كان ذلك في أواخر1982 وأوائل 1983 أي منذ أكثر من ربع قرن! ولا زالت مأساة المبيدات مستشرية وتدمر صحة الآلاف من المواطنين وعلي الأخص الذين يتعاملون مباشرة مع المبيدات.
وحسب ما جاء في كتاب الدكتور نجد أن حوالي 24% من العينات احتوت علي متبقيات وأن حوالي 2,6% تعدت الحدود القصوي "المسموح" بها. يذكر الكتاب متبقيات لمبيدات موجودة بنسب تفوق كثيراً المسموح به: مثلاً بروفينفوس بالطماطم و فينتروثيون بالخيار و كلوروبيريفوس بالفلفل الأخضر وددت وفينتروثيون وكلوربيريفوس وميثيل بيريميفوس وبروفينفوس بالبطاطس و ليندين(سادس كلوروالهكسان الحلقي) وددت ومشتقاته مركبات البيفينيل عديدة الكلور وهبتاكلور وإندرين وديلدرين بالأسماك وددت وهبتاكلور وديلدرين وإندرين وليندين بصفار البيض والداي ثيو كربامات في العنب. كذلك فإن بعض المبيدات العالية خطورة مثل الميثوميل والفائقة الخطورة مثل سادس كلوريد البنزين وجدت متبقياتها في الأغذية، وجدت أيضاً مبيدات تقع في مجموعة ب والمحتمل سرطانيتها للإنسان، رغم القول بأنها محظورة بمصر! مثلاً وجدت متبقيات للكلوروثالونيل وبروسيمدون بالطماطم وهناك أمثلة عديدة أخري.
إن اكتشاف متبقيات لمبيدات ممنوع تداولها في عينات غذائية مجمعة من محافظات مختلفة بمصر حتي عام 2003 يدل علي أن مبيدات محظورة لا تزال تستخدم وكما استنتج دغيم وجدا الله والمرصفي في بحثهم المنشور في 2001 "بأنه لا يوجد محظور أو مقيد من المبيدات".
• ما مدي انطباق تقارير حول استخدامات المبيدات في دولة مثل فرنسا علينا هنا في مصر من حيث طرق ومدي التزام بتعليمات الاستخدام ونوعية المبيدات المستعملة ؟
قال الدكتور طلبة في حديثه "وبالتالي يتم الاستناد إلي بيانات مركز بحوث السرطان التابع لمنظمة الصحة العالمية ومقره باريس، والذي أصدر دراسة منذ ما يقرب من شهر تتحدث عن السرطان في فرنسا وباقي دول العالم ....تؤكد أنه لا توجد دلائل علي الارتباط بين المبيدات والسرطان، وقد عملت بالأمم المتحدة 20 سنة، وأعلم جيداً أن أي بيان يصدر عن هذه المنظمات الدولية يكون "صوابا ألف في المائة". وبالنظر إلي التقرير نجد أنه يحمل العنوان "أسباب السرطان في فرنسا" وأن التقرير لا علاقة له ببلدان أخري فكيف يقول الدكتور طلبة في حديثه "وباقي دول العالم" ؟ خصوصاً وأنه أكد في حديثه علي ضرورة التحقق من المعلومات قبل أن تصل للمواطنين حرصاً علي الصالح العام، وتجنباً لإثارة البلبلة في قضية حساسة.
وبصرف النظر عن دقة استنتاجات التقرير خصوصاً وأنني لا أعرف التفاصيل العلمية و المنهج التجريبي المتبع حتى أقيمه علمياً فإنه لا ينطبق علي مصر بأي حال من الأحوال. فالمبيدات المستخدمة وطريقة استخدامها تختلف كثيراً بين حالة مصر وفرنسا. د. طلبة في نفس الحديث يؤكد علي ذلك فهنا بمصر ليس هناك التزام بنسب تركيز المبيد وفترات الرش والحصاد وارتداء ملابس واقية وكمامات للذي يقوم بالرش...الخ
• هل صحيح أن أي بيان يصدر عن المنظمات الدولية بشأن المبيدات يكون "صوابا ألف في المائة" ؟
إن الثقة العمياء في التقارير الدولية (أو أي تقرير علمي) يعني أن هناك حياد مطلق ودقة قياس مثالية وأن كل العوامل المنظورة والغير منظورة أخذت في الاعتبار وهذا الأسلوب مرفوض في الدوائر العلمية. إن كل تقرير علمي مهما كان مقام الجهة التي تصدره، لا بد وأن يخضع للتقييم والنقد العلمي. باختصار فإن الحديث عن صواب المائة في المائة كلام غير علمي أم صواب الألف في المائة فهو كلام نقيض للعلم. إن تطور العلم هو عملية متواصلة من البحث ثم التقييم الذي يؤدي إلي مزيد من البحث والتدقيق فيؤكد بعض النتائج ويخطأ البعض الآخر وهكذا يتقدم العلم أما التسليم مسبقاً بالنتائج في غياب فحص نقدي فهذا خارج نطاق العلم ويقع في نطاق منطق الأيمان، هكذا يوضح المتخصصون في فلسفة العلم. فاعتبار إصدارات المنظمات الدولية كأنها منزّلة أو مقدّسة مناف تماماً للمنهج العلمي. علماً بأن التقرير نفسه لا يزعم انطباقه علي الوضع في مصر،و لا يصح تحميل التقرير ما لم يدعيه.
هل من المقبول، كما جاء في الحوار، القول بأنه" إذا كانت هناك نسبة إصابة بالسرطان واحد في الألف فلا ينبغي أن أحدث بها كل هذا التوتر في المجتمع المصري"
لا أستطيع أن أخفي دهشتي الكبيرة لهذا القول الذي جاء علي لسان من يعلن حرصه علي الصالح العام كما قال فواحد في الألف من المجتمع المصري الذي يشكل حوالي 75 ألف مواطن هو جزء مهم من الصالح العام. هؤلاء هم مواطنون: إخوة، أبناء، أمهات، جدود، أطفال لهم نفس حقوق الإنسان من أجل صحة جيدة ومعيشة كريمة كما تنص مؤسسات ومواثيق الأمم المتحدة التي عمل بها د.طلبة. إن هذا الكلام مرفوض بالقطع ولا سيما أنه يجيء ، علي لسان مسئول في الدولة ومهتم بقضايا البيئة دولياً، أتمني أن يكون هناك سوء فهم ما وأن هذا التعبير القاسي لم يكن مقصوداً.
• هل يطمئن المواطن لاختيارات لجنة المبيدات الحالية ؟ بصراحة وتعبيراً عن نفسي فأنا لا أطمئن لهذه اللجنة من حيث تشكيلها فهي لا تضم ممثلين عن المستهلك والأمهات والمستخدم المباشر للمبيدات، كما أن ما جاء علي لسان رئيسها يجعلني أن أطالب باستقالة اللجنة وتشكيل لجنة أفضل تمثيلاً بحيث تكون صحة المواطن هي الأولوية وألا يكون أحد من أعضائها بما فيهم المتخصصين من له مصالح مع شركات المبيدات. تجيء هذه المطالبة رغم أن احتمال الاستجابة لها قريبة من الصفر لإدراكي بطبيعة السلطة السياسية الحاكمة. تبقي المطالبة الشعبية القوية والمستمرة والمستندة علي الحقائق والمعلومات العلمية، خصوصاً أن بعض إن لم يكن كثيراً من الضرر يمكن تجنبه.
* نشرأيضا بجريدة البديل18 يونية 2008