الحشرات المعدلة وراثياً ومستقبل مكافحة الأوبئة
د. أكمل عبد الحكيم
د. أكمل عبد الحكيم
تعتبر الحشرات من أنجح أشكال الحياة على الإطلاق. فبخلاف قدرتها على الحياة في جميع البيئات الطبيعية، بما في ذلك الصحاري والبحار والمحيطات، يوجد حالياً أكثر من مليون صنف ونوع من الحشرات تم توصيفها من قبل العلماء، وهو ما يزيد على عدد أنواع وأصناف جميع الكائنات الحية الأخرى. وتشير التقديرات إلى وجود ما بين ستة إلى عشرة ملايين نوع وصنف من الحشرات، لم يتعرف عليها العلماء بعد. وبسبب هذا العدد الهائل، والانتشار الواسع، نشأت علاقة مُعقدة بين الإنسان وتلك الكائنات، وهي العلاقة التي تميزت ببعض الجوانب الإيجابية، والكثير من الجوانب السلبية من المنظور البشري. وتتمثل الجوانب الإيجابية لهذه العلاقة مثلاً في حشرة نحل العسل، والتي وفرت غذاء أساسياً للإنسان منذ بداية التاريخ، بالإضافة إلى دورها الأساسي في تلقيح النباتات الزراعية وغير الزراعية. وهناك أيضاً دودة القز، مصدر الحرير الطبيعي، والذي لعب هو الآخر دوراً رئيسياً في تنشيط حركة التجارة، وفي التبادل الثقافي بين حضارات الشرق والغرب. ومن الاستخدامات الطبية للحشرات، فكرة الاعتماد على يرقات بعض أنواع الذباب لعلاج الجروح، والوقاية من الغرغرينة، حيث تلتهم تلك اليرقات الأنسجة الميتة المتعفنة، مما يساعد على التئام الجروح وسرعة شفاء التقرحات. وغني عن الذكر هنا أيضاً، أن الكثير من الثقافات تعتمد على الحشرات كمصدر غذائي غني بالبروتينات، وكنوع من المقبِّلات والمشهيات. ويدعو بعض العلماء حالياً إلى ضرورة زيادة المساحة المخصصة للحشرات على موائد الطعام البشرية، كمصدر غذائي زهيد الثمن وواسع الانتشار.
وبخلاف الجوانب الإيجابية للعلاقة بين الإنسان والحشرات، تميزت هذه العلاقة بقدر أكبر بكثير من الجوانب السلبية. فبداية، تعتبر الحشرات من الطفيليات التي تهاجم الإنسان وتتغذى على جسده وعلى دمائه، كما هو الحال مع حشرة الجرب، والقمل، والبعوض، والبراغيث، وحشرة البق. وفي حالات أخرى تنقل هذه الحشرات الأمراض إلى الإنسان، مثل البراغيث التي تنقل جرثومة الطاعون، أو البعوض الذي ينقل طفيلي الملاريا. هذا الطفيلي يصيب ما بين 350 مليوناً إلى 500 مليون شخص سنوياً، يلقى حتفهم منهم ما بين 1.3 مليون إلى 3 ملايين كل عام، أو ما يعادل وفاة واحدة كل ثلاثين ثانية. ولا يقتصر تأثير الملاريا على الوفيات والإصابات فقط، حيث ارتبط هذا المرض أيضاً بالعديد من الآثار الاقتصادية السلبية. فعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسات أن متوسط الدخل الفردي في المناطق التي لا يوجد فيها المرض يزيد خمسة أضعاف عن متوسط الدخل في المناطق الموبوءة. ورغم أن الكثيرين يعتقدون أن توطن الملاريا في بعض المناطق هو نتيجة الفقر والتدهور الاقتصادي في تلك المناطق، فإن العكس قد يكون هو الصحيح. فتوطن الملاريا ربما يكون هو السبب وليس النتيجة، في بقاء تلك المناطق تحت خط الفقر المدقع.
ورغم أن الإنسان يستخدم حالياً طائفة واسعة من المبيدات الحشرية ضد البعوض، ومن العقاقير المضادة لطفيلي الملاريا، إلا أن جهوده تلك لم تكلل بالنجاح الكافي، كما هو واضح من عدد حالات الإصابات ومن الوفيات السنوية. هذا الواقع المؤسف من الممكن أن يشهد تحولاً جذرياً في المستقبل القريب، حسب نتائج دراسة نشرت هذا الأسبوع في إحدى الدورية العلمية المتخصصة (Proceedings of the National Academy of Sciences journal). في هذه الدراسة قام علماء جامعة "جونز هوبكنز" الشهيرة، بتخليق جنس جديد من البعوض، معدل وراثياً بأسلوب هندسة الجينات، مما يجعله أكثر مقاومة للإصابة بطفيلي الملاريا. وبالاعتماد على مبدأ أن البقاء للأصلح، أطلق العلماء أعداداً متساوية من البعوض المعدل وراثياً ومن البعوض العادي، في أقفاص تحتوي على فئران مصابة بالملاريا. وبعد مرور وقت كافٍ، سمح بتوالد تسعة أجيال، اكتشف العلماء أن نسبة البعوض المعدل وراثياً زادت من 50% إلى 70%، بينما قلت نسبة البعوض العادي من 50% إلى 30%. وما حدث هو أن ارتشاف البعوض لدماء الفئران المصابة، أدى إلى نسبة وفيات أعلى، وقدرة أقل على التزاوج والإنجاب بين البعوض العادي، مقارنة بالبعوض المعدل وراثياً الذي لم يصب بالمرض. وبناء على هذه النتيجة، يتوقع العلماء أنه إذا ما أطلق البعوض المعدل وراثياً في البيئات الطبيعية، فسيحتل تدريجياً أماكن تواجد وتوالد الجنس الأضعف. وبمرور وقت كافٍ، لن يجد طفيلي الملاريا عائلاً مناسباً، يعينه على الانتقال إلى الإنسان. وبهذه الطريقة، يمكن كسر إحدى حلقات السلسلة الضرورية لطفيلي الملاريا لاستكمال دورة حياته الطبيعية. هذا الأسلوب يعرف بأسلوب التحكم الطبيعي، أو التحكم البيولوجي (Biocontrol)، ويعتمد على استخدام طرق طبيعية للتحكم في الحشرات والآفات. وفي المفهوم العادي للتحكم الطبيعي، يتم استخدام كائن حي آخر يتغذى على، أو يتنافس على الغذاء والمصادر الطبيعية، مع الحشرة أو الآفة المرغوب في القضاء عليها. وأحياناً ما يستخدم طفيلي أو جرثومة، تصيب الحشرة أو الآفة بالأمراض، وتسبب نفوقها. وما يحاوله علماء "جونز هوبكنز"، هو تطوير هذا المفهوم الأساسي، من خلال تخليق حشرات معدَّلة وراثية، تقاوم الإصابة بالطفيلي، وبالتالي تمنع انتقاله لاحقاً إلى الإنسان، عندما تلدغ هذه الحشرات الإنسان لارتشاف دمائه. وهي الفكرة التي إذا ما أثبتت نجاحها في التطبيق العملي، فستبشر بظهور فجر جديد في معركة الإنسان التاريخية مع الأمراض والأوبئة التي تنتقل إليه من خلال عضات ولدغات الحشرات.
و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.
وبخلاف الجوانب الإيجابية للعلاقة بين الإنسان والحشرات، تميزت هذه العلاقة بقدر أكبر بكثير من الجوانب السلبية. فبداية، تعتبر الحشرات من الطفيليات التي تهاجم الإنسان وتتغذى على جسده وعلى دمائه، كما هو الحال مع حشرة الجرب، والقمل، والبعوض، والبراغيث، وحشرة البق. وفي حالات أخرى تنقل هذه الحشرات الأمراض إلى الإنسان، مثل البراغيث التي تنقل جرثومة الطاعون، أو البعوض الذي ينقل طفيلي الملاريا. هذا الطفيلي يصيب ما بين 350 مليوناً إلى 500 مليون شخص سنوياً، يلقى حتفهم منهم ما بين 1.3 مليون إلى 3 ملايين كل عام، أو ما يعادل وفاة واحدة كل ثلاثين ثانية. ولا يقتصر تأثير الملاريا على الوفيات والإصابات فقط، حيث ارتبط هذا المرض أيضاً بالعديد من الآثار الاقتصادية السلبية. فعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسات أن متوسط الدخل الفردي في المناطق التي لا يوجد فيها المرض يزيد خمسة أضعاف عن متوسط الدخل في المناطق الموبوءة. ورغم أن الكثيرين يعتقدون أن توطن الملاريا في بعض المناطق هو نتيجة الفقر والتدهور الاقتصادي في تلك المناطق، فإن العكس قد يكون هو الصحيح. فتوطن الملاريا ربما يكون هو السبب وليس النتيجة، في بقاء تلك المناطق تحت خط الفقر المدقع.
ورغم أن الإنسان يستخدم حالياً طائفة واسعة من المبيدات الحشرية ضد البعوض، ومن العقاقير المضادة لطفيلي الملاريا، إلا أن جهوده تلك لم تكلل بالنجاح الكافي، كما هو واضح من عدد حالات الإصابات ومن الوفيات السنوية. هذا الواقع المؤسف من الممكن أن يشهد تحولاً جذرياً في المستقبل القريب، حسب نتائج دراسة نشرت هذا الأسبوع في إحدى الدورية العلمية المتخصصة (Proceedings of the National Academy of Sciences journal). في هذه الدراسة قام علماء جامعة "جونز هوبكنز" الشهيرة، بتخليق جنس جديد من البعوض، معدل وراثياً بأسلوب هندسة الجينات، مما يجعله أكثر مقاومة للإصابة بطفيلي الملاريا. وبالاعتماد على مبدأ أن البقاء للأصلح، أطلق العلماء أعداداً متساوية من البعوض المعدل وراثياً ومن البعوض العادي، في أقفاص تحتوي على فئران مصابة بالملاريا. وبعد مرور وقت كافٍ، سمح بتوالد تسعة أجيال، اكتشف العلماء أن نسبة البعوض المعدل وراثياً زادت من 50% إلى 70%، بينما قلت نسبة البعوض العادي من 50% إلى 30%. وما حدث هو أن ارتشاف البعوض لدماء الفئران المصابة، أدى إلى نسبة وفيات أعلى، وقدرة أقل على التزاوج والإنجاب بين البعوض العادي، مقارنة بالبعوض المعدل وراثياً الذي لم يصب بالمرض. وبناء على هذه النتيجة، يتوقع العلماء أنه إذا ما أطلق البعوض المعدل وراثياً في البيئات الطبيعية، فسيحتل تدريجياً أماكن تواجد وتوالد الجنس الأضعف. وبمرور وقت كافٍ، لن يجد طفيلي الملاريا عائلاً مناسباً، يعينه على الانتقال إلى الإنسان. وبهذه الطريقة، يمكن كسر إحدى حلقات السلسلة الضرورية لطفيلي الملاريا لاستكمال دورة حياته الطبيعية. هذا الأسلوب يعرف بأسلوب التحكم الطبيعي، أو التحكم البيولوجي (Biocontrol)، ويعتمد على استخدام طرق طبيعية للتحكم في الحشرات والآفات. وفي المفهوم العادي للتحكم الطبيعي، يتم استخدام كائن حي آخر يتغذى على، أو يتنافس على الغذاء والمصادر الطبيعية، مع الحشرة أو الآفة المرغوب في القضاء عليها. وأحياناً ما يستخدم طفيلي أو جرثومة، تصيب الحشرة أو الآفة بالأمراض، وتسبب نفوقها. وما يحاوله علماء "جونز هوبكنز"، هو تطوير هذا المفهوم الأساسي، من خلال تخليق حشرات معدَّلة وراثية، تقاوم الإصابة بالطفيلي، وبالتالي تمنع انتقاله لاحقاً إلى الإنسان، عندما تلدغ هذه الحشرات الإنسان لارتشاف دمائه. وهي الفكرة التي إذا ما أثبتت نجاحها في التطبيق العملي، فستبشر بظهور فجر جديد في معركة الإنسان التاريخية مع الأمراض والأوبئة التي تنتقل إليه من خلال عضات ولدغات الحشرات.
و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.
تعليق