محبة الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أصل عظيم من أصول الدين وعبادة وقربة الى الله عز وجل
كيف لا وقد اقسم بحياته سبحانه وتعالى تعظيما له في قوله : ( لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون )
واقسم جل جلاله بان يعطيه حتى يرضيه وشرح له صدره ورفع له ذكره . . . وخصه بجملة من الخصائص التي لم يخص بها نبيا من قبل يتجلى فيها حب الله لرسوله الكريم وتشريفه وتعظيمه وتوقيره
لذلك كانت محبته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم ومسلمة ولا يستقيم ايمان المرء الا بها لما في ذلك من اتباع لامر الله عز وجل القائل : ( قل ان كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم و أزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره )
وفي الحديث الشريف : ( لا يؤمن احدكم حتى أكون أحب اليه من والده وولده والناس أجمعين )
وفي حديث آخر : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن احدكم حتى أكون أحب اليه من والده وولده )
وجعل ابن تيمية رحمه الله محبة النبي وتعظيمه شرطا من شروط قيام الدين كله حين قال : ( ان قيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله ، وسقوط ذلك سقوط الدين كله )
وكان ابن رجب الحنبلي يقسم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الى قسمين :
محبة واجبة وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول من عند الله وتلقيه بكامل الرضا والتسليم والتعظيم وطاعته فيما أمر به من الواجبات والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات
ومحبة فضل وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به وتحقيق الاقتداء بسنته واخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته وأكله وشربه ولباسه واحواله مع اهل بيته . . .
ولو تأملنا في اخبار السلف الصالح رضي الله عنهم من جيل الصحابة الكرام الذين عايشوا الرسول الكريم صلوات الله عليه و نالوا شرف لقائه والنصيب الاوفى من محبته وتعظيمه ، وكذا من بعدهم من جيل التابعين وتابعي التابعين ، لتساءلنا بكل خزي وأسى : اين نحن من حبهم للنبي الكريم ؟ اين نحن ممن كانوا اذا ذكر عندهم النبي غشيتهم السكينة كما لو ان على رؤوسهم الطيرفلا يتحدث احد ولا يبرى قلم ولا يقوم احد وكأنهم في صلاة كما جاء في الخبر عن عبد الرحمان بن مهدي
ولتتأملوا معي بعض ما انتقيت لكم من عدد من المراجع ، من مظاهر حب السلف الصالح للنبي صلوات الله عليه ، وان كنت في الحقيقة وجدت صعوبة كبيرة في المفاضلة بين هذا الخبر و ذاك
سئل علي بن ابي طالب رضي الله عنه : كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كان والله أحب الينا من اموالنا واولادنا وآبائنا وامهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ
و سال ابو سفيان وهو على الشرك حينئذ زيدا بن الدثنة حينما اخرجه اهل مكة من الحرم ليقتلوه : انشدك بالله يا زيد ، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وانك في اهلك ؟
قال : والله لا احب ان محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه واني جالس في اهل بيتي
فقال ابو سفيان : ما رأيت من الناس احدا يحب احدا كحب اصحاب محمد محمدا
و قال ابن القيم في روضة المحبين : لقد حكم الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في انفسهم واموالهم فقالوا : هذه اموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك . . .
ومن شدة حرص الصحابة على اكرامه وتجنب ايذائه قول انس بن مالك رضي الله عنه : ان ابواب النبي كانت تقرع بالاظافير
وذكر عن مالك بن انس رضي الله عنه انه كان اذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه
وكان جعفر ابن محمد اذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه ، وما رئي قط يحدث عن رسول الله الا على طهارة
وروي عن سعيد بن المسيب وهو مريض يقول : اقعدوني فاني اعظم ان احدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا مضطجع
كيف تتحقق محبة النبي :
امور عدة وسلوكيات مختلفة في حياتنا من الممكن ان تتحقق بها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوبنا وتتجلى اصدق تجلي من بينها :
- تعظيم السنة قولا وعملا وتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به واخبر ، واتباعه وطاعته والاهتداء بهديه والرضا بما حكم به وما شرعه ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )
- ثم سلوك الادب معه بالثناء عليه بما هو اهله وبما اثنى به على نفسه وما اثنى به عليه ربه عز وجل
بالصلاة والسلام عليه وعلى آله تاكيدا لامر الله عز وجل : ( ان الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )
وافضل صيغ الصلاة عليه ما علم هو لاصحابه حين سالوه : اما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة ؟ قال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد ( اخرجه البخاري )
- والتأدب عند ذكره بان لا يذكر اسمه مجردا بل يوصف بالنبوة او الرسالة ، فلا يقال : محمد ، ولكن نبي الله او الرسول او نحو ذلك . قال عز وجل : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا )
- وتوقير حديثه والتأدب عند سماعه وتوقير مجلس الحديث واجلاله
روي عن الامام مالك رضي الله عنه : انه اذا اراد ان يخرج للحديث توضأ وضوءه للصلاة ولبس احسن ثيابه ومشط لحيته وتعمم وبخر مجلس الحديث من اوله الى فراغه
- استشعار هيبته وجلالة قدره واستحضار محاسنه ومكانته ومنزلته والمعاني الجالبة لحبه واجلاله وتذكر احواله والاكثار من قراءة سيرته ومعرفة احوال عيشه وأدابه واوصافه
وقد عني الصحابة رضوان الله عليهم بمعرفة اوصاف النبي عناية فائقة شديدة من فرط محبتهم له حتى انهم كانوا يعدون عدد الشعيرات البيض في لحيته وراسه ، فقد روى الترمذي في الشمائل المحمدية عن انس رضي الله عنه انه قال : ما عددت في شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم الا اربعة عشرة شعرة بيضاء
ومن بين ما جاء في اوصاف النبي و آدابه صلى الله عليه وسلم كما ذكرت كتب السيرة والشمائل ما يلي :
كان النبي صلى الله عليه وسلم احسن الناس صفة واجملها فكان وجهه ابيض مشربا بحمرة مستديرا مثل الشمس والقمر أزهر اللون يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر
شديد سواد الشعر واسع الجبين ازج الحواجب – أي دقيقهما – بينهما عرق يدره الغضب
وكان اهدب الاشفار اكحل العينين اسود الحدقة اقنى العرنين ( الذي في انفه احديداب ) له نور يعلوه كث اللحية
وكان ضليع الفم اشنب مفلج الاسنان
كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة
وكان معتدل الخلق عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين طويل الزندين اطول من المربوع ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد
وكان شعره لا يجاوز شحمة اذنيه اذا هو وفره ، وكان أشعر الذراعين والمنكبين واعالي الصدر
وكان صلى الله عليه وسلم ضخم القدمين يمشي هونا ذريع المشية وكان لا يلتفت وراءه اذا مشى فاذا التفت التفت جميعا
وكان اذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة وكان بين كتفيه خاتم النبوة كانه بضعة ناشزة غدة حمراء مثل بيضة الحمامة . . .
وكان عرقه كاللؤلؤ وريح عرقه اطيب من المسك ، وكان يعرف بطيب المسك اذا اقبل وكان اذا ادهن صب في راحته اليسرى يبدأ بحاجبيه ثم عينيه ثم رأسه
عن انس رضي الله عنه قال : دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندنا – أي نام نومة القيلولة – فعرق وجاءت امي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا ام سليم ما هذا الذي تصنعين ؟ قالت : هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو اطيب من الطيب
وكان ريقه الشريف صلى الله عليه وسلم يشفي المريض وقد مج في بئر ففاح منها رائحة المسك وبصق في بئر دار انس بن مالك فلم يكن في المدينة بئر اعذب منها
وكان صلوات الله عليه لا يتكلم في غير حاجة طويل السكوت اذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه
وكان كلامه فصلا يفهمه كل من سمعه وكان لايحدث حديثا الا ابتسم ولا يضحك الا تبسما وكان يمزح ولا يقول الا حقا
يرى اللعب المباح فلا ينكره
وكان اذا خلا بنسائه الين الناس واكرمهم ضحاكا بساما يقسم بينهم بالعدل
وكان يخدم نفسه ويخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمله الرجال في بيوتهم
وكان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله
وكان يبدأ من لقيه بالسلام قبل ان يصافحه فاذا ناوله يده لم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه
وكان يبايع النساء ويصافحهن تحت الثوب
وكان صلى الله عليه وسلم اشد حياء من العذراء في خدرها كما جاء في حديث ابي سعيد الخدري لم يكن يثبت بصره في وجه احد
وكان يجيب دعوة الحر والعبد ويقبل الهدية ولو انها جرعة لبن ويكافئ عليها ويأكلها ولا يستكبر عن اجابة المسكين او الأمة ويكرم اهل الفضل ويصل رحمه ولا يجفو على احد ويقبل معذرة المعتذر اليه
وكان ارحم الناس بالصبيان والعيال وكان يداعب ابني السيدة فاطمة الزهراء الحسن والحسين ويحملهما ويقبلهما ويحنو عليهما حنوا عظيما
وما كان ياتيه احد عبدا او حرا او أمة الا قام معه في حاجته ، ولم يؤثر عنه انه نهر قط خادما ولم يضرب بيده الشريفة شيئا قط الا ان يجاهد في سبيل الله
وكان لا يجلس اليه احد وهو يصلي الا خفف صلاته وأقبل عليه فقال : الك حاجة ؟
وكان يتفقد اصحابه ويسأل عنهم ويعودهم في مرضهم فكان اذا صلى بالناس في الغداة اقبل عليهم بوجهه فقال : هل فيكم مريض فأعوده
فان قالوا لا قال : فيكم جنازة اتبعها ؟ . . .
وكان صلى الله عليه وسلم اذا اتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الايمن او الايسر
وكان لطيف الظاهر والباطن يعرف في وجهه غضبه ورضاه ولم يشافه احدا بما يكره . . .
و بعد . . .
فهذا كما يقال : غيض من فيض
غيض من بعض ما أثر عن النبي الكريم في جملة اوصافه وآدابه وعاداته التي لا بد لكل مسلم من معرفتها والاطلاع عليها ومذاكرتها بين الفينة والاخرى
فمن بين اكثر ما تتوهج به محبة النبي في القلوب كما اتضح لنا مما سبق ، هي قراءة سيرته وتعداد محاسنه وآدابه واخلاقه التي هي اخلاق القرآن كما جاء عن عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن
ولعلنا اليوم مع ما نشهده من تطاول للاعلام الغربي على مكانة النبي صلوات الله عليه وعلى آل بيته ، لعلنا احوج ما نكون الى التذكير بكل ما يتعلق بالنبي الكريم سواء في سيرته العطرة وما حوته من احداث ثم معرفة شمائله وخصائصه ومعجزاته وكراماته . . . وكل ما من شأنه ان يجعل القلب ذاكرا لحقه من التوقير والتعزير
( انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا)
أسأل الله أن يوفقنا جميعا للاقتداء به في الاخلاق والافعال والاقوال والاحوال
تعليق