يشرق على الوجود هلال محرم ، فيجدد في دنيانا ذكرى من أروع الذكريات وأجلها خطرا وأعظمها أثرا في مسيرة الانسانية .
ذكرى هجرة المختار صلوات الله عليه وسلم من مكة الى المدينة التي لم تكن هربا من عداوة و لا ايثارا لحياة وادعة هادئة . . .
وانما كانت هجرته صلوات الله عليه من أجل اقامة دولة للاسلام تقوم على اسمى المبادئ الانسانية التي لم يعرفها الوجود قط من قبل ، وثورة على الظلم والفساد والطغيان بمختلف تجلياته .
وتحضرني اليوم من وحي الهجرة احدى القصص التي سجلها التاريخ الاسلامي ، وهي قصة الصحابي الجليل ( جندب بن ضمرة ) الذي كان أحد مسلمي مكة الذين لم يغادروها مع المهاجرين الى المدينة .
و لما سمع بنزول قوله تعالى متوعدا أشد وعيد ، من ظل بمكة وهو قادر على الهجرة مع المسلمين الى المدينة
( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )
عندئذ ضاق صدر جندب بالبقاء في مكة ، وكان وقتها شيخا كبيرا أعياه المرض ، وتذكر بعض كتب التاريخ انه كان قد فقد بصره ، لكنه كان موسرا أوسع الله عليه رزقه .
فقال لأهله : احملوني على سرير الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أنا بائت ليلتي هذه بمكة
وقد صدقت عزيمة جندب رضي الله عنه فلم يبت ليلته تلك بمكة . ولكنه كذلك لم يبت ليلة واحدة بالمدينة المنورة فقد كان أجله ينتظره في الطريق قريبا من مكة في موقع يقال له حتى اليوم : التنعيم
وكان جندب رضي الله عنه وهو يحتضر يصفق بيمينه على شماله ويقول : اللهم هذه لك وهذه لرسولك ، ابايعك على ما بايعك عليه رسولك
ومات جندب قبل ان يدرك غايته ظاهرا كما توهم كفار ومشركي مكة الذين هزؤوا منه قائلين : ويح جندب لا هو بلغ الذي يريد ولا هو أقام في أهله فمات بينهم فجهزوه ودفنوه
ولكنه رضي الله عنه كان قد أدرك أربه وحقق رغبته فعلا
فقد جهل هؤلاء الهازؤون ان الأعمال بالنيات ، فقد تقبل الله عز وجل هجرة جندب وان لم تتم ، وكتب لها ثوابها كاملا وان لم تتحقق ، وأنزل سبحانه قوله : ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما )
كان هذا شعاعا من قبس ذكرى الهجرة النبوية الشريفة
يمكن أن نتدبر من خلاله أسمى المعاني وأرقاها في الخلق الذي يجب أن يكون عليه المسلم الحقيقي
وهو سرعة الامتثال للأمر الالهي دون تفكير ولا روية
ودون الالتفات لكل ما يمكن أن تضحي به وتتركه وراءك في سبيل تنفيذ هذا الأمر الرباني المقدس
الهجرة النبوية اذن ، مدرسة من العبر والعظات الجليلة النفيسة
ما أحوجنا أن نقف عندها قليلا ونحاول في رحابها أن نجعل مددا يقوي صلتنا بالله ويرسخ ايماننا بأن الثبات على الحق والصبر هو أولى الخطوات نحو النصر
أيها العام الهجري :
باسم الله نستقبلك
وباسم الله نرجو أن تكون خيرا من سلفك
وأن تصبح أيامك القادمات صفحات عز ونصر للمسلمين بكل بقاع العالم بقاع العالم
تعليق