كان من فضل الله علينا ان فضل بعض المواسم على بعض وجعل الطاعات والقربات فيها اعظم من سائر ايام السنة
وذلك حتى يتمكن المؤمن من استدارك ما فاته وجبر ما نقص من فرائضه
لقد فضل الله عز وجل شهر رمضان المبارك على سائر الشهور ، وزاده تفضيلا بليلة القدر العظيمة التي هي خير من ألف شهر
و ألف شهر توازي ثلاثة وثمانين عاما وأربعة أشهر . . . يعني ما قد يوازي عمر أحدنا كله ان لم يضاعفه !
فأعظِم بليلة تعدل كل هذه السنين والأشهر قد نزلت في تبيان قدرها سورة مستقلة من سور القرآن تتلى ليل نهار
والقدر هو الشرف العظيم والمنزلة العالية ، ولقد شرف الله عز وجل قدر هذه الليلة بنزول القرآن فيها
كما قيل عن القدر انه يعني التضييق ، وذلك كناية عن التضييق في تعيينها واخفائها عن علم العباد
كما قيل ايضا انها تعني القدَر بفتح الدال وذلك لتقدير الله عز و جل فيها للارزاق والآجال . . .
ليلة القدر ليلة عظيمة وصفها الله عز وجل بالليلة المباركة كما جاء في سورة الدخان { انا أنزلناه في ليلة مباركة}
ووصفها بالسلام { سلام هي حتى مطلع الفجر } ، ومعنى سلام اختلف فيه المفسرون ، فقيل معناه ان الملائكة تسلم فيها على العابدين والمصلين والقائمين ، وذلك لان الملائكة ينزلون فوجا فوجا من ابتداء الليل الى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة السلام
وقيل ايضا سلام أي سالمة لا يستطيع الشيطان فيها سوءا أو أذى
وقيل سلام أي جنة لان من أسماء الجنة دار السلام . . .
وبين لنا رسونا الكريم وبشرنا ان من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
والايمان والاحتساب معناه تصديقا بوعد الله وبثوابه وانه حق وطلبا للاجر والثواب لا لقصد آخر من رياء او نحوه
وقيام ليلة القدر هو احياؤها بالصلاة فيها والتهجد والدعاء وقراءة القرآن
ففي حديث عائشة رضي الله عنها انها قالت : يا رسول الله اذا وافقت ليلة القدر ماذا أقول فيها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : قولي " اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عني "
واحياؤها سنة لقول عائشة رضي الله عنها { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان }
و المراد بالمجاورة الاعتكاف والدعاء فيها من هدي الرسول الكريم ومما علمنا اياه
وقد اختلف العلماء في تحديدها ، فمنهم من قال هي في الشهر كله
ومنهم من قال هي في النصف الثاني منه فقيل ليلة السابع عشر وقيل التاسع عشر . . .
لكن الجمهور على انها في العشر الأواخر من رمضان كما تواترت بذلك الاحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وهي في الأوتار آكد لحديث عائشة رضي الله عنها السابق الذكر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر }
ورويت عن الصحابة الكرام ادلة كثيرة ومختلفة في تعيين أي ليلة من الليالي العشر الأواخر هي
فقيل هي ليلة الواحد والعشرين وقيل الثالث والعشرين والخامس والعشرين والسابع والعشرين . . .
وكل ما روي في تعيينها باحدى هذه الليالي لا يخلو من الصحة والتواتر لكن الجمهور على انها ليلة السابع والعشرين
وهو راي لفريق كثير من الصحابة
الا ان بعض العلماء رأوا انها تنتقل كل سنة وليست في ليلة معينة ، وذلك لتعارض الادلة الصحيحة في تعيينها ، ولا طريق الى الجمع بين هذه الاحاديث الا ترجيح راي انتقالها كما ذهب اليه الامام النووي
ولا شك ان الله عز وجل أخفى ليلة القدر عن عباده ليجتهدوا في العبادة وفي طلبها طيلة العشر الاواخر من هذا الشهر الكريم
فانه عز وجل له مواسم خير ورحمة ومغفرة لا يعلمها الا هو يعظم فيها الثواب والاجر على الطاعات
فكان واجبا على المؤمنين الاجتهاد في العبادة والطاعة عسى ان يوافق عملهم الصالح وقتا من هذه الاوقات السعيدة
وللامام الرازي رحمه الله تاويل بليغ جدا في الحكمة من اخفاء ليلة القدر عن علمنا كما اخفى بعض المواسم الاخرى
يقول في تفسيره لسورة القدر : أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه أحدها : أنه أخفاها كما أخفى سائر الاشياء فانه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل وأخفى الاجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان
تعليق