.
يحكى أنه في قديم الزمان كانت هناك زوجة جميلة حسناء ، فاتنة تسحر الألباب بجمالها وظرفها ، وكان اسمها زينب
رزق الله زينب زوجا جلفا غليظ الطباع شديد العصبية ، لا ينفك عن ضربها وصفعها كلما احتدم بينهما الجدال لأي سبب من الأسباب
لم تعد زينب تطيق صبرا فقررت يوما أن تترك البيت ، واستدعت والدتها حتى تساعدها في نقل وحمل أغراضها
الا أن والدتها نصحتها ألا تفعل وأشارت عليها بأن تقصد "الشيخ مسرور"، شيخ بركة ، ذائع الصيت في تحقيق المراد وادخال السعادة الى قلوب العباد . . .
عملت زينب بما أشارت عليها به والدتها ، وقررت ذات صباح أن تقصد بيت الشيخ مسرور ، فلعل عنده تجد البلسم الشافي الذي يشعل نار حبها في قلب زوجها ويهدئ من فورة طباعه ، ويكبح جماحه الذي انفلت من بين يديها فما عادت تتحكم به أبدا . . .
استطاعت بعد جهد جهيد ان تصل الى بيت الشيخ مسرور الذي كان يقع على رأس تلة تطل على شاطئ البحر
كانت الرياح شديدة ذلك اليوم ، وكلما كانت زينب تقترب من المنزل كلما اشتدت قوة الرياح
فتزداد زينب تلفعا بثيابها وهي تقول : اللهم ابعث لي بشائر الخير مع هذه الرياح . . . يالله يا أرحم الراحمين
طرقت باب المنزل برفق وأحست برعشة تسري في أوصالها حينما سمعت وقع خطى وراء الباب
فُتح الباب بحذر ليطل من ورائه وجه صبية في العشرين
- لا شك أنها ابنة الشيخ مسرور
ابتسمت زينب بصعوبة محاولة ان تخفي ارتباكها وقالت : أقصد بيت الشيخ مسرور بارك به الله ليساعدني في حل مشكلة لدي
فقالت الفتاة : لو تعودي أيتها الشريفة أعزك الله في يوم آخر ، فالشيخ مسرور في خلوة منذ فجر الامس ولم يأذن لنا بأن نقطع عليه خلوته
حزنت زينب كثيرا وعادت أدراجها تجر أذيال الخيبة
كانت قد عقدت العزم على ان تباشر منذ اليوم في ما يجب فعله ، حتى يصير زوجها طيعا لينا كالعجين بين يديها
وتساءلت بحنق في قرارة نفسها : كيف تستطيع هؤلاء النسوة أن يجعلن من أزواجهن كالحملان الوديعة ، يأتمرون بأمرهن وينتهون بنهيهن !!!
ثم تنهدت بأسى وأكملت طريقها الى البيت لا تكاد تلوي على شئ
انتظرت زينب يومين قبل ان تقصد ثانية منزل الشيخ مسرور ، وهذه المرة كان أثر كدمة زرقاء فوق عينها اليسرى واضحا جليا ، فلم تكن بحاجة لأن
تفسر للشيخ مشكلتها
ابتسم الشيخ مسرور وقال : هل هو دائما هكذا يا ابنتي ؟
قالت : بلى يا شيخي ، انه رجل غليظ الطباع حاد المزاج كثير العناد مذ عرفته
الا أن الإنصاف والأمانة يوجبان علي أن أشهد له بالفضل فيما دون هذا ، فهو رجل كريم جواد يعطف على المسكين ويرحم اليتيم ويقري الضيف
ولا يقرب الحرام
قال الشيخ مسرور وهو يطالع وجهها الجميل بإمعان : اسمعيني جيدا يا ابنتي ، اذا اردت أن يكف زوجك عن ضربك وأن يحسن معاملتك فلا بد من عمل الآتي
اقصدي شاطئ البحر قبيل اصفرار قرص الشمس ، وابحثي عن حجر أبيض أملس عليه خطوط بنية رفيعة
شرط أن يكون بنصف طول ابهامك ، ثم اجلبيه لي وبعدها أُعلمك بما يجب فعله . . .
مر يومان قبل أن تتمكن زينب من إيجاد الحجر الأبيض بنفس الأوصاف التي حددها الشيخ مسرور
الا أنه كان أكبر قليلا من نصف طول ابهامها ، لكن زينب ارتأت أن لا ضير في هذا . . .المهم انه حجر أبيض مخطط . . .
أخذ الشيخ مسرور الحجر الأبيض بين يديه حين أحضرته له وأخذ يقلبه ثم قال لها : اعطيني يدك اليمنى
ووضع الحجر الأبيض فوق ابهامها ثم قال : ليس هذا هو المطلوب يا زينب ، لا بد أن يكون كما حددت لك ، نصف طول ابهامك لا أقل ولا أكثر
عادت زينب مرة اخرى الى الشاطئ تبحث عن الحجر الابيض ، وفي كل مرة كانت تعود خائبة خالية الوفاض
تسلل اليأس الى قلبها وفكرت بأن تقصد شيخا آخر لكنها قالت : سوف أذهب لآخر مرة . . .
وبينما هي تبحث بين الأحجار والمحار اذا بامرأة عجوز تقف امامها قائلة : هل ترغبين في قراءة الطالع يا ابنتي ؟
فقالت زينب بعصبية : بئس الطالع يا عجوز برؤيتك ! اتركيني بحالي ، فان طالعي أشد سوادا من وجهك الدميم هذا !
لم تأبه لها قارئة الطالع وافترشت الرمال ورمت في حجرها أحجارا بيضاء و أخرى سوداء وشرعت تتلو بعض الترانيم
فما كان من زينب الا ان اخذت الاحجار من حجرها وكأنها وجدت كنزا ثمينا واخذت تقلبها الواحد تلو الآخر
وكم كانت سعادتها غامرة حينما عثرت اخيرا على الحجر المطلوب !
انه بطول نصف ابهامها الصغير وكانه فصل عليه . . .
قصدت زينب منزل الشيخ مسرور للمرة الثالثة وهي تأمل ان تكون المرة الاخيرة باذن الله
تناول الشيخ مسرور الحجر وهو يبتسم قائلا : هذا هو يا زينب ! بهذا الحجر سوف يتحقق مرادك باذن الرحمان المنان
أخذ ريشته ودواته وشرع يرسم بعض الطلاسم والرموز الغريبة فوق الحجر
ثم يغمس الحجرفي كأس به ماء . . . ويعيد ذلك مرة تلو المرة . . . الى ان اصبح الحجر مُرمدا بعد أن كان ناصع البياض
ثم أخذ يفركه بين أصابعه الى أن جف من الماء تماما
كانت زينب تتابعه وهو يفعل كل هذا وقلبها يكاد يتوقف عن النبض من شدة انفعالها !
ثم أمسك الشيخ مسرور ورقة صغيرة صفراء مهترئة الحواف وكتب فيها ما شاء الله له أن يكتب
ثم طواها بعناية بالغة و أحكم الصاقها بالصمغ وقال لها :
- خذي هذه الورقة يا زينب وضعيها داخل وسادته وأحكمي إخفائها بين ثنايا حشوة الوسادة حتى لا ينتبه إليها
وعند اليوم السابع أخرجيها واحرقيها وادفني رمادها عند سابع شجرة تصادفك في الطريق لدى خروجك من المنزل
واحتفظي بهذا الحجر الأبيض ، كلما سمعت زوجك عاد من عمله خذي الحجر وضعيه تحت لسانك وظلي على هذا الحال لسبعة ايام كاملة
اذا كلمك او سألك أمرا ما أخبريه أن لسانك كله مدمل ولا تستطيعين الكلام
قالت زينب : وكيف أخبره يا شيخي وهذا الحجر تحت لساني ؟!
قال : ألا تحسنين القراءة والكتابة ؟ قالت : بلى
قال : اكتبي له إذن ذلك في ورقة واجعلي الكتابة وسيلة التخاطب بينكما عندما تلزم الضرورة ، ولا تفتحي فمك أبدا ولا تنبسي بكلمة ، ولا تنزعي الحجر من تحت لسانك الا عند النوم ، واحرصي على ألا يراك تفعلين ذلك . . .
ثم أعطاها الماء الذي كان يغمس فيه الحجر الأبيض ، وطلب منها أن تسكبه عند عتبة الباب قبيل عودته ذلك اليوم
عادت زينب إلى البيت وسارعت بالتو إلى إخفاء الورقة في وسادة زوجها ، ثم أكملت ترتيب البيت وتحضير العشاء
وقبيل صلاة العشاء بقليل وهو موعد عودة زوجها ، أخذت الماء الذي أعطاها إياه الشيخ مسرور ، وسكبته عند عتبة الباب كما أوصاها . . . ثم أخذت الحجر الأبيض وتركته على مقربة منها
بمجرد أن سمعت زوجها يفتح الباب سارعت إلى وضعه تحت لسانها !
دخل الزوج الذي كان يبدو متعبا مغبر الملابس من وعثاء الطريق ، و همهم بما يشبه السلام
فأشارت بيدها وكأنها تقول : وعليكم السلام
وحين سألها ما بك لم لا تتكلمين ، أشارت له مرة أخرى بأن لسانها مريض
فلم يفهمها وصرخ في وجهها : ما بك يا امرأة ؟! هل أصبحت خرساء ؟
فما كان منها إلا أن تناولت ورقة ، وكتبت له فيها أن لسانها كله دمل ولا تستطيع الكلام . . .
فقال وهو يضحك باستخفاف رافعا يديه الى السماء : رب ضارة نافعة ! اللهم أدم علينا هذه النعمة . . . اللهم أدم علينا هذه النعمة !! لو كان لسان حرباء لاشتكى الى خالقه من المجهود الشديد الذي تجبرينه عليه !!!
وأخذ يضحك دون توقف وهي تراقبه صامتة تستشيط غضبا
فدعت عليه في سرها وقالت وأسنانها تصطك من فرط حنقها : قل ما يحلو لك ، فأنا اليوم قليلة الحيلة بسبب هذا الحجر تحت لساني
لكن بعدها أنا التي سأقول وأنت من سينصت أيها الظالم . . .
وهكذا صار في اليوم الموالي : يعود الزوج من عمله ، فتستقبله زينب وهي صامتة ، تحاول أن يكون كل شئ يطلبه مجهز سلفا ، حتى لا تضطر لمجادلته التي لم تعد تحسنها مذ وضعت الحجر الأبيض تحت لسانها
مرت ثلاثة أيام على هذا المنوال خيم فيها الهدوء والسكينة في البيت على غير العادة
لم تعد زينب تدعو عليه كلما خرج من البيت" ألا لا أرجعك الله إلي" تاركا إياها تتحسس وجناتها المكدومة من أثر صفعاته
ولم تعد تخاف من اقتراب موعد عودته كما كانت من قبل وتستقبله وهي ساخطة مشيحة بوجهها عنه . . .
من يوم أن وضعت الحجر الأبيض تحت لسانها انقلب زوجها إلى رجل آخر : خفت عصبيته وهدأت فورته ولم يعد صوته العالي يجلجل بأركان البيت كما كان من قبل ، بل انه لم يعد في حاجة إلى ذلك ، فزينب موجودة حاضرة دائما قربه بعد أن كانت تخشى مجالسته من فرط ما أذاقها من ضرب
ولم يرفع يده الى وجهها بصفعة منذ ذلك اليوم !
استطاعت زينب ان تكشف النقاب عن صفات جميلة في زوجها لم تكن تعرفها من قبل ، فها هو يبتسم كما يبتسم الناس ، ويمزح كما يمزح الناس ، ويقفل باب البيت برفق اذا خرج وهي نائمة ، ويبعث لها بمساعده في الدكان عند الظهر للاطمئنان عليها . . . أي حجر أبيض يفعل كل هذا !!!
- ليتني وضعت هذا الحجر الأبيض السحري في فمي مذ عرفته !
هذا المساء أحضر لها دواء حتى يشفى لسانها ، نظرت إليه باستغراب وهو يناولها القارورة و قالت في سرها : سبحان مغير الأحوال ! سبحان مقلب القلوب!
بركاتك يا شيخ مسرور . . . منذ يومين فقط دعوتَ علي وقلت رب ضارة نافعة ! منذ متى كنت تهتم لوجع ألم بي ، أو ألم سهرني ؟!!
سبحانك ربي ما أعظمك !
لم تنتظر زينب وصول اليوم السابع كما أوصاها الشيخ مسرور حتى تنزع الحجر الأبيض من تحت لسانها ، فلم تعد بحاجة اليه
أخذته ولفته في منديل حريري ووضعته بعناية في علبة حليها ومصوغاتها الذهبية وقد نوت في سرها على شئ ما . . .
عاد زوجها في مساء اليوم الخامس ليجدها وقد تجملت في أبهى حلة وصنعت له ما يشتهي من طعام
بادرها بالسلام والسؤال : كيف صرت الآن ، هل تناولت الدواء ؟
فقالت : الحمد لله انه دواء شاف حقا ، اكتفيت منه برشفة واحدة وكأن لساني لم يكن به شيئا قط ، وكأنني كنت أكذب !
فقال : الحمد لله الشافي المعافي ، خذي هذا إذن
قالت زينب وهي تتناول منه كيسا : ما هذا ؟
فقال : إنها بعض الحلوى والفواكه الجافة من دكان جديد افتتح اليوم قرب دكاني
ابتسمت زينب حين لمحت بعيونه بريقا حانيا وادعا لم تلمحه في عيونه منذ سنوات عدة ، ثم قالت وهي تيمم شطرالمطبخ :
فلنتركها اذن للسهرة بعد العشاء . . .
صباح الغذ قصدت زينب صائغ الحي وناولته الحجر الأبيض ، وطلبت منه أن يصنع سبيكة فضية رفيعة ويغلفه بها ويعلقه في سلسلة جميلة . . .
ومنذ ذلك اليوم والحجر الأبيض الأملس الصغير لا يفارق جيد زينب
وكلما رأت ابتسامة الرضا والمحبة في محيا زوجها ، تحسست الحجر الأبيض بين أصابعها وقالت في سرها : بركاتك يا شيخ مسرور !
رزق الله زينب زوجا جلفا غليظ الطباع شديد العصبية ، لا ينفك عن ضربها وصفعها كلما احتدم بينهما الجدال لأي سبب من الأسباب
لم تعد زينب تطيق صبرا فقررت يوما أن تترك البيت ، واستدعت والدتها حتى تساعدها في نقل وحمل أغراضها
الا أن والدتها نصحتها ألا تفعل وأشارت عليها بأن تقصد "الشيخ مسرور"، شيخ بركة ، ذائع الصيت في تحقيق المراد وادخال السعادة الى قلوب العباد . . .
عملت زينب بما أشارت عليها به والدتها ، وقررت ذات صباح أن تقصد بيت الشيخ مسرور ، فلعل عنده تجد البلسم الشافي الذي يشعل نار حبها في قلب زوجها ويهدئ من فورة طباعه ، ويكبح جماحه الذي انفلت من بين يديها فما عادت تتحكم به أبدا . . .
استطاعت بعد جهد جهيد ان تصل الى بيت الشيخ مسرور الذي كان يقع على رأس تلة تطل على شاطئ البحر
كانت الرياح شديدة ذلك اليوم ، وكلما كانت زينب تقترب من المنزل كلما اشتدت قوة الرياح
فتزداد زينب تلفعا بثيابها وهي تقول : اللهم ابعث لي بشائر الخير مع هذه الرياح . . . يالله يا أرحم الراحمين
طرقت باب المنزل برفق وأحست برعشة تسري في أوصالها حينما سمعت وقع خطى وراء الباب
فُتح الباب بحذر ليطل من ورائه وجه صبية في العشرين
- لا شك أنها ابنة الشيخ مسرور
ابتسمت زينب بصعوبة محاولة ان تخفي ارتباكها وقالت : أقصد بيت الشيخ مسرور بارك به الله ليساعدني في حل مشكلة لدي
فقالت الفتاة : لو تعودي أيتها الشريفة أعزك الله في يوم آخر ، فالشيخ مسرور في خلوة منذ فجر الامس ولم يأذن لنا بأن نقطع عليه خلوته
حزنت زينب كثيرا وعادت أدراجها تجر أذيال الخيبة
كانت قد عقدت العزم على ان تباشر منذ اليوم في ما يجب فعله ، حتى يصير زوجها طيعا لينا كالعجين بين يديها
وتساءلت بحنق في قرارة نفسها : كيف تستطيع هؤلاء النسوة أن يجعلن من أزواجهن كالحملان الوديعة ، يأتمرون بأمرهن وينتهون بنهيهن !!!
ثم تنهدت بأسى وأكملت طريقها الى البيت لا تكاد تلوي على شئ
انتظرت زينب يومين قبل ان تقصد ثانية منزل الشيخ مسرور ، وهذه المرة كان أثر كدمة زرقاء فوق عينها اليسرى واضحا جليا ، فلم تكن بحاجة لأن
تفسر للشيخ مشكلتها
ابتسم الشيخ مسرور وقال : هل هو دائما هكذا يا ابنتي ؟
قالت : بلى يا شيخي ، انه رجل غليظ الطباع حاد المزاج كثير العناد مذ عرفته
الا أن الإنصاف والأمانة يوجبان علي أن أشهد له بالفضل فيما دون هذا ، فهو رجل كريم جواد يعطف على المسكين ويرحم اليتيم ويقري الضيف
ولا يقرب الحرام
قال الشيخ مسرور وهو يطالع وجهها الجميل بإمعان : اسمعيني جيدا يا ابنتي ، اذا اردت أن يكف زوجك عن ضربك وأن يحسن معاملتك فلا بد من عمل الآتي
اقصدي شاطئ البحر قبيل اصفرار قرص الشمس ، وابحثي عن حجر أبيض أملس عليه خطوط بنية رفيعة
شرط أن يكون بنصف طول ابهامك ، ثم اجلبيه لي وبعدها أُعلمك بما يجب فعله . . .
مر يومان قبل أن تتمكن زينب من إيجاد الحجر الأبيض بنفس الأوصاف التي حددها الشيخ مسرور
الا أنه كان أكبر قليلا من نصف طول ابهامها ، لكن زينب ارتأت أن لا ضير في هذا . . .المهم انه حجر أبيض مخطط . . .
أخذ الشيخ مسرور الحجر الأبيض بين يديه حين أحضرته له وأخذ يقلبه ثم قال لها : اعطيني يدك اليمنى
ووضع الحجر الأبيض فوق ابهامها ثم قال : ليس هذا هو المطلوب يا زينب ، لا بد أن يكون كما حددت لك ، نصف طول ابهامك لا أقل ولا أكثر
عادت زينب مرة اخرى الى الشاطئ تبحث عن الحجر الابيض ، وفي كل مرة كانت تعود خائبة خالية الوفاض
تسلل اليأس الى قلبها وفكرت بأن تقصد شيخا آخر لكنها قالت : سوف أذهب لآخر مرة . . .
وبينما هي تبحث بين الأحجار والمحار اذا بامرأة عجوز تقف امامها قائلة : هل ترغبين في قراءة الطالع يا ابنتي ؟
فقالت زينب بعصبية : بئس الطالع يا عجوز برؤيتك ! اتركيني بحالي ، فان طالعي أشد سوادا من وجهك الدميم هذا !
لم تأبه لها قارئة الطالع وافترشت الرمال ورمت في حجرها أحجارا بيضاء و أخرى سوداء وشرعت تتلو بعض الترانيم
فما كان من زينب الا ان اخذت الاحجار من حجرها وكأنها وجدت كنزا ثمينا واخذت تقلبها الواحد تلو الآخر
وكم كانت سعادتها غامرة حينما عثرت اخيرا على الحجر المطلوب !
انه بطول نصف ابهامها الصغير وكانه فصل عليه . . .
قصدت زينب منزل الشيخ مسرور للمرة الثالثة وهي تأمل ان تكون المرة الاخيرة باذن الله
تناول الشيخ مسرور الحجر وهو يبتسم قائلا : هذا هو يا زينب ! بهذا الحجر سوف يتحقق مرادك باذن الرحمان المنان
أخذ ريشته ودواته وشرع يرسم بعض الطلاسم والرموز الغريبة فوق الحجر
ثم يغمس الحجرفي كأس به ماء . . . ويعيد ذلك مرة تلو المرة . . . الى ان اصبح الحجر مُرمدا بعد أن كان ناصع البياض
ثم أخذ يفركه بين أصابعه الى أن جف من الماء تماما
كانت زينب تتابعه وهو يفعل كل هذا وقلبها يكاد يتوقف عن النبض من شدة انفعالها !
ثم أمسك الشيخ مسرور ورقة صغيرة صفراء مهترئة الحواف وكتب فيها ما شاء الله له أن يكتب
ثم طواها بعناية بالغة و أحكم الصاقها بالصمغ وقال لها :
- خذي هذه الورقة يا زينب وضعيها داخل وسادته وأحكمي إخفائها بين ثنايا حشوة الوسادة حتى لا ينتبه إليها
وعند اليوم السابع أخرجيها واحرقيها وادفني رمادها عند سابع شجرة تصادفك في الطريق لدى خروجك من المنزل
واحتفظي بهذا الحجر الأبيض ، كلما سمعت زوجك عاد من عمله خذي الحجر وضعيه تحت لسانك وظلي على هذا الحال لسبعة ايام كاملة
اذا كلمك او سألك أمرا ما أخبريه أن لسانك كله مدمل ولا تستطيعين الكلام
قالت زينب : وكيف أخبره يا شيخي وهذا الحجر تحت لساني ؟!
قال : ألا تحسنين القراءة والكتابة ؟ قالت : بلى
قال : اكتبي له إذن ذلك في ورقة واجعلي الكتابة وسيلة التخاطب بينكما عندما تلزم الضرورة ، ولا تفتحي فمك أبدا ولا تنبسي بكلمة ، ولا تنزعي الحجر من تحت لسانك الا عند النوم ، واحرصي على ألا يراك تفعلين ذلك . . .
ثم أعطاها الماء الذي كان يغمس فيه الحجر الأبيض ، وطلب منها أن تسكبه عند عتبة الباب قبيل عودته ذلك اليوم
عادت زينب إلى البيت وسارعت بالتو إلى إخفاء الورقة في وسادة زوجها ، ثم أكملت ترتيب البيت وتحضير العشاء
وقبيل صلاة العشاء بقليل وهو موعد عودة زوجها ، أخذت الماء الذي أعطاها إياه الشيخ مسرور ، وسكبته عند عتبة الباب كما أوصاها . . . ثم أخذت الحجر الأبيض وتركته على مقربة منها
بمجرد أن سمعت زوجها يفتح الباب سارعت إلى وضعه تحت لسانها !
دخل الزوج الذي كان يبدو متعبا مغبر الملابس من وعثاء الطريق ، و همهم بما يشبه السلام
فأشارت بيدها وكأنها تقول : وعليكم السلام
وحين سألها ما بك لم لا تتكلمين ، أشارت له مرة أخرى بأن لسانها مريض
فلم يفهمها وصرخ في وجهها : ما بك يا امرأة ؟! هل أصبحت خرساء ؟
فما كان منها إلا أن تناولت ورقة ، وكتبت له فيها أن لسانها كله دمل ولا تستطيع الكلام . . .
فقال وهو يضحك باستخفاف رافعا يديه الى السماء : رب ضارة نافعة ! اللهم أدم علينا هذه النعمة . . . اللهم أدم علينا هذه النعمة !! لو كان لسان حرباء لاشتكى الى خالقه من المجهود الشديد الذي تجبرينه عليه !!!
وأخذ يضحك دون توقف وهي تراقبه صامتة تستشيط غضبا
فدعت عليه في سرها وقالت وأسنانها تصطك من فرط حنقها : قل ما يحلو لك ، فأنا اليوم قليلة الحيلة بسبب هذا الحجر تحت لساني
لكن بعدها أنا التي سأقول وأنت من سينصت أيها الظالم . . .
وهكذا صار في اليوم الموالي : يعود الزوج من عمله ، فتستقبله زينب وهي صامتة ، تحاول أن يكون كل شئ يطلبه مجهز سلفا ، حتى لا تضطر لمجادلته التي لم تعد تحسنها مذ وضعت الحجر الأبيض تحت لسانها
مرت ثلاثة أيام على هذا المنوال خيم فيها الهدوء والسكينة في البيت على غير العادة
لم تعد زينب تدعو عليه كلما خرج من البيت" ألا لا أرجعك الله إلي" تاركا إياها تتحسس وجناتها المكدومة من أثر صفعاته
ولم تعد تخاف من اقتراب موعد عودته كما كانت من قبل وتستقبله وهي ساخطة مشيحة بوجهها عنه . . .
من يوم أن وضعت الحجر الأبيض تحت لسانها انقلب زوجها إلى رجل آخر : خفت عصبيته وهدأت فورته ولم يعد صوته العالي يجلجل بأركان البيت كما كان من قبل ، بل انه لم يعد في حاجة إلى ذلك ، فزينب موجودة حاضرة دائما قربه بعد أن كانت تخشى مجالسته من فرط ما أذاقها من ضرب
ولم يرفع يده الى وجهها بصفعة منذ ذلك اليوم !
استطاعت زينب ان تكشف النقاب عن صفات جميلة في زوجها لم تكن تعرفها من قبل ، فها هو يبتسم كما يبتسم الناس ، ويمزح كما يمزح الناس ، ويقفل باب البيت برفق اذا خرج وهي نائمة ، ويبعث لها بمساعده في الدكان عند الظهر للاطمئنان عليها . . . أي حجر أبيض يفعل كل هذا !!!
- ليتني وضعت هذا الحجر الأبيض السحري في فمي مذ عرفته !
هذا المساء أحضر لها دواء حتى يشفى لسانها ، نظرت إليه باستغراب وهو يناولها القارورة و قالت في سرها : سبحان مغير الأحوال ! سبحان مقلب القلوب!
بركاتك يا شيخ مسرور . . . منذ يومين فقط دعوتَ علي وقلت رب ضارة نافعة ! منذ متى كنت تهتم لوجع ألم بي ، أو ألم سهرني ؟!!
سبحانك ربي ما أعظمك !
لم تنتظر زينب وصول اليوم السابع كما أوصاها الشيخ مسرور حتى تنزع الحجر الأبيض من تحت لسانها ، فلم تعد بحاجة اليه
أخذته ولفته في منديل حريري ووضعته بعناية في علبة حليها ومصوغاتها الذهبية وقد نوت في سرها على شئ ما . . .
عاد زوجها في مساء اليوم الخامس ليجدها وقد تجملت في أبهى حلة وصنعت له ما يشتهي من طعام
بادرها بالسلام والسؤال : كيف صرت الآن ، هل تناولت الدواء ؟
فقالت : الحمد لله انه دواء شاف حقا ، اكتفيت منه برشفة واحدة وكأن لساني لم يكن به شيئا قط ، وكأنني كنت أكذب !
فقال : الحمد لله الشافي المعافي ، خذي هذا إذن
قالت زينب وهي تتناول منه كيسا : ما هذا ؟
فقال : إنها بعض الحلوى والفواكه الجافة من دكان جديد افتتح اليوم قرب دكاني
ابتسمت زينب حين لمحت بعيونه بريقا حانيا وادعا لم تلمحه في عيونه منذ سنوات عدة ، ثم قالت وهي تيمم شطرالمطبخ :
فلنتركها اذن للسهرة بعد العشاء . . .
صباح الغذ قصدت زينب صائغ الحي وناولته الحجر الأبيض ، وطلبت منه أن يصنع سبيكة فضية رفيعة ويغلفه بها ويعلقه في سلسلة جميلة . . .
ومنذ ذلك اليوم والحجر الأبيض الأملس الصغير لا يفارق جيد زينب
وكلما رأت ابتسامة الرضا والمحبة في محيا زوجها ، تحسست الحجر الأبيض بين أصابعها وقالت في سرها : بركاتك يا شيخ مسرور !
بقلم : سلاف فواخرجي
(مستوحاة -بتصرف في الأحداث- من حكايا الموروث الشعبي المغربي)
(مستوحاة -بتصرف في الأحداث- من حكايا الموروث الشعبي المغربي)
تعليق