فضيلة الصبر من اعظم الفضائل التي ينبغي على المسلم ان يتحلى بها
فـــبها يصبح العبد حرا ، ومــنها تستمد النفس قوتها وعزتها ، وعــندها تتضاءل وتصغر كل النوائب والرزايا مهما عظمت ومهما اشتدت قسوتها
وقد وصف الله عز وجل في كتابه الصابرين بأوصاف عدة ، وذكر فضيلة الصبر والشكر في أكثر من تسعين موضعا بالقرآن الكريم
واضاف الخيرات والدرجات العلى الى الصبر ، وجعلها ثمرة وجزاء له
يقول عز وجل : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا}
وقال تعالى : { وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }
وجعل الله عز وجل كل طاعة وكل قربة حسابها مقدر وأجرها محدد بعدد او وزن ، الا الصبر
فانه جعله بغير حساب ، أي اكثر من ان يحصر بعدد معلوم في علم البشر :{ انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }
وقال ايضا :{ والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس }
وانما نص عز وجل على هذه المواطن الثلاث لأن أكثر ما يصيب العبد من ابتلاء او مصيبة في دنياه الا ويكون ذا تعلق بهذه المواطن الثلاث : الفقر والمرض والحرب
وجمع الله للصابرين امورا لم يجمعها لغيرهم ابدا : { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }
متى يطلب من العبد ان يكون صبورا
وقد قسم علماء الشريعة مواطن الحاجة الى الصبر والثبات عليه الى قسمين كبيرين تدخل فيهما اقسام صغيرة
اولهما فيما كان موافقا لهوى الانسان من نعم انعم عليه بها كالصحة والسلامة والمال والجاه والامان والسلطة والمنعة . . . وجميع ملاذ الدنيا المختلفة والمتعددة
فان العبد اذا لم يصبر عليها بان يضبط نفسه ويمنعها عن الركون الى هذه الملذات والانهماك في اشباعها ، اخرجه ذلك الى الطغيان والبطر
ولذلك حذر عز وجل من فتنة الولد والزوج والمال في قوله :{ يا ايها الذين آمنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله }
وثانيهما فيما كان مخالفا لهوى الانسان سواء ارتبط باختيار العبد كالصبر على طاعة الله والبعد عن المعاصي
او ما كان خارجا عن ارادته واختياره كالمصائب التي يبتلى بها العبد في دنياه
فاما الصبر على طاعة الله عز وجل والبعد عن معصيته فهو اعلى مقامات الصبر واعظمها
فان طاعة الله منها ما تنفر منه النفس وتستثقله بسبب كسل كالصلاة والحج والجهاد . . . او بسبب بخل كالزكاة
وكل هذا يحتاج الى صبر من طرف العبد لما ارتبطت به هذه العبادات من مظنة المشقة
وكذا بالنسبة للبعد عن المعصية بجميع انواعها والتي جمعها الله عز وجل في قوله : { وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي }
فالبعد عن هذه المعاصي منها ما يثقل على نفس الانسان ومنها ما يستسهله كالغيبة والكذب والنفاق. . .
لذلك كان الصبر على الامتناع عن المعاصي ومجاهدة النفس على تركها سبب من اسباب تمام دين الانسان وكماله وبه يتحقق الاجر والثواب الذي جعله الله عز وجل بغير حساب
واما ما لا يدخل تحت اختيار العبد وارادته فيشمل كل ما يصيب الانسان من مصيبة او رزية مثل موت الأهل وهلاك المال وزوال الصحة . . .
فالصبر على ذلك كله من اعلى مراتب الصبر لان فيه ايمان بقضاء الله ورضا به ويقين بأن ما أخذه الله منك مهما كان انما هو وديعة أودعك اياها فاسترجعها منك
روي عن ام سليم رضي الله عنها قالت : { توفي ابن لي وزوجي طلحة غائب فقمت فسجيته في ناحية من البيت
فقدم ابو طلحة فقمت فهيأت له افطاره فجعل يأكل فقال : كيف الصبي ؟ قلت : بحمد الله لم يكن منذ اشتكى بأسكن منه الليلة
ثم تصنعت له أحسن ما كنت اتصنع له قبل ذلك حتى أصاب مني حاجته
ثم قلت : الا تعجب من جيراننا ؟ قال : ما لهم ؟ قلت : اعيروا عارية فلما طلبت منهم واسترجعت جزعوا
فقال : بئس ما صنعوا . فقلت : هذا ابنك كان عارية من الله تعالى وان الله قبضه اليه . فحمد الله واسترجع .
ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : اللهم بارك لهما في ليلتهما
قال راوي الحديث : فلقد رأيت لهم بعد ذلك في المسجد سبعة كلهم قد قرؤوا القرآن }
وقد تفيض عين الانسان بالدمع ويتوجع القلب على ما حل به من ابتلاء ، لكن هذا لا يخرجه عن حد الصبر او الرضا
بل هو رحمة من الله كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم حينما فاضت عيناه لموت ابنه ابراهيم فقال : هذه رحمة وانما يرحم الله من عباده الرحماء
كيف يستعين المؤمن بالصبر
وقد تضعف نفس المرء وتجزع عند الابتلاء ويصبح هنا التمنع بالصبر والتسلح به امرا شاقا قد لا ينعم به الله على الجميع
لكن الله عز وجل كما انزل الداء انزل معه الدواء ووعد بالشفاء
فجعل ذكره عز وجل عند الشدائد باعثا للمؤمن على الثبات والطمأنينة و الاستعانة بالصبر :{ الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا ان لله وان اليه راجعون }
ولكي يستطيع العبد ان يستعين على صروف الدنيا وخطوبها واهوالها بالصبر ، عليه ان يتذكر دائما ان كل شئ مصيره للزوال
يقول نبينا صلوات الله عليه وسلامه : {ما مثلي ومثل الدنيا الا كمثل راكب مال الى ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها }
وان يعلم ان دوام الحال من المحال وان الامور اذا بلغت أشدها جاء الفرج
وان يتأسى بمن اصابتهم حوادث الزمان فتغلبوا عليها بالصبر والايمان وان المرء يستفيد مما ينزل به من الشدائد اضعاف ما يستفيده في حال رخائه وسعادته
وفي ذلك يقول الشاعر :
نوائب الدهر أدبتني
وانما بوعظ الاديب
قد ذقت حلوا وذقت مرا
كذاك عيش الفتى ضروب
لم يمض بؤس ولا نعيم
الا ولي فيهما نصيب
كذاك من صاحب الليالي
تغذوه من درها الخطوب
مصادر الموضوع
كتاب : موعظة المؤمنين من احياء علوم الدين
للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي
كتاب : ترويح الفوائد برقائق الوعظ والارشاد
للشيخ علي رفاعي محمد
تعليق