اعتادت عند كل مساء حين يحل القمر ضيفا على شرفتها ، أن تفرد جدائلها ، وتطلق سراح خصلاتها الطويلة
لتنسدل فوق كتفيها وظهرها بحرية وغنج .
تقبل بوجهها الى السماء المتلألئة ، فيقبل عليها القمر بأشعته الفضية الحانية .
يداعب وجهها و أجفانها المسبلة ، ويهمس بأذنها مزيحا وراءها خصلات متمردة تتلاعب بها الأنسام ، حتى يتأمل ذاك الضياء المسكر الذي ينساب من شعاعه المخملي الى محياها .
فيُحيل جبينها قطعة لُجين صافية تسطع بالسناء والبهاء ، و يذر فوق عيونها الناعسة نثرا لؤلؤيا تكاد أجفانها الرقيقة لا تطيق حمله
فتزداد أهدابها الخجلى انكسارا.
أصبح موعدا مسائيا لا تتخلف عنه أبدا ولا تتأخر . . . فالشرفة المقفلة طوال النهار لا تفتح الا عند نزول أستار الظلام .
تفتحها على مصراعيها حتى تنعم بأكبر قدر من الضياء ، وتلقي بشمعاتها الخابيات في أحد الأدراج المظلمة بغرفتها .
فهي لم تعد بحاجة اليها بعد أن أصبح القمر مؤنس وحشتها ، وسراجها المنير الذي لا ينطفئ أبدا .
همس لها ذات مساء : أما آن الأوان كي تقتربي مني أكثر وتزوريني هنا بمخدعي حيث المزيد من الضياء الذي تعشقين ؟
قالت وقد أخذت منها الدهشة مأخذها : وكيف أقترب منك وأنت بدر في العلياء يتوسط كبد السماء !
وأنا كما ترى . . . في الأرض . . . في قرار بعيد ؟
قال : أوما رأيت كيف أستطيع أن أجعل مياه هذه البحار تمتد فوق اليابسة و تنحسر عنها ؟ و كيف تصبح الأزهار والورود عند اكتمالي
مثقلة بالرحيق تكاد تنقصم سُوقُها ؟
أئذا لان الصخر لأشعتي وضيائي ، لن تلين لي هذه المسافات التي تبعدك عني !!؟
قالت : بلى ، وهو حلم وردي جميل يراودني كل ليلة ، لكنني ما جرؤت أبدا أن أطرق باب الرجاء لتحقيقه .
قال وقد ازداد شعاعه ألقـا و وميضا : فلتغمضي عينيك ، ولتتركي حضن الضياء يحتويك بقبضته المتينة ويرقيك إلي هنا بالعلياء . . .
هنا ... حيث مكانك أيتها النجمة الشاردة .
أغمضت عيناها وهي تحس بأشعته البيضاء من وراء جفونها المسبلة تزداد وهجا .
وكأنما هبت فجأة نسمة دافئة محملة بعطر الليلك والتفت حول خصرها باحكام ، فتراءت لها وعيونها لا تزال مقفلة صورتها وهي طفلة تتعلق بتلابيب والدها ، فيحملها ويضمها الى صدره ، و ذاك العطر والعَبَق اللذيذ الذي تعشقه ينبعث من ذقنه الخشن و رقبته الدافئة . . .
وإذا بشرفتها تعلو وتعلو وتبتعد عن الأرض وترتفع بخفة وانسياب ، وكأنها ورقة تداعبها أنسام ربيعية حانية
وإذا بها تصبح في ضيافة القمر بعد أن كان القمر هو من يحل عندها ضيفا .
و أضحت النجوم قاب قوسين أو أدنى من متناولها ، حتى خُيل إليها أنها تناديها !
أصبحت أمسياتها الجديدة برفقة القمر سعيدة حالمة ، لا يغادرها الدفء ولا ينحسر عنها الضياء .
أولها عطر فُل وأريج غابات الصنوبر ، ووسطها رحيقٌُُ شذيٌ عذب سكر ، وآخرها لحنٌ و شعرٌ وجواهرُ بيان تُنثر .
لم تعد تخاف من حلول الظلام ، بل أصبحت تنتظره بفارغ الصبر، وتتعجب كيف يقولون : الليلة سيغيب القمر !
فقمــرها هي لم يكن يغيــب أبـــدا .
كان دائما بدرا مكتملا منيرا ، لا يأفُل ولا يحجبه أبدا كوكب من الكواكب السابحة المتناثرة حولها هنا بالعلياء .
وأصبح شعاعه الفضي ينساب ويتغلغل أكثر بنعومة ساحرة بين كل خصلة من خصلاتها وكل شعرة من شعراتها .
يمشطها ويصففها ويزينها بآلاف النجيمات الصغيرة المتلألئة . . . ثم يلقي على وجهها المغسول بالضياء غلالة قمرية بيضاء كأنها نسج من الزنابق العطرة .
حينما طالعته عيونها الناعسة باستغراب عن هذه الغلالة قال : أغار عليك من هذه الشهب المجنونة و النيازك الحارقة التي تمر قربك كل حين ...
أصبح القمر نديمها الأوحد وكل دنياها التي كانت صغيرة محدودة ، فأضحت فسيحة متجردة من كل الحدود .
باحت له بكل أسرارها الطفولية ، فكان أحيانا يضحك وأحيانا يبكي و أحيانا أُخَر يتأملها في صمت وإصغاء عميق . . .
فتحت له باب شرفتها واسعا فتسلل شعاعه المضئ الى كل زاوية من زوايا غرفتها ، وانجلت له كل تفاصيلها ومحتوياتها .
حتى أنه أصبح يحفظ عدد الأقلام الموضوعة على مكتبها ، وكتبها ودفاترها ، وعدد الأدراج بخزانة ثيابها، وأسماء عطورها ، وعدد مشابك شعرها ، وألوان ثيابها وأحذيتها . . .
لم يظل ركن من أركان الغرفة الا وانكشف له تحت غمرة الضياء و النور.
لكنه لمح ذات مساء شيئا ما تحت وسادتها لم ينتبه له من قبل ، فسألها : ما ذاك هناك تحت وسادتك ؟
فأجابت : إنه كتاب قديم جدا كنت أحب أن أطالعه كل مساء ، أؤنس به وحدتي وأذهب به وحشتي .
فقال : ولِمَ لَم تريني إياه أبدا من قبل ؟ قالت : بلى فعلت ! أو ما عدت تذكر وقد ارتجلت لك منه مرارا شعرا وحكمة و حكايا و أسمارا . . . ؟
قال : لا ما عدت أذكر أنك حدثتني عن هذا المؤنس القديم الذي لا يزال تحت وسادتك الى الآن .
قالت وقد تكهنت بما يختلج صدره من مشاعر : ولكنه كتاب قديم جدا قد هجرته منذ زمن بعيد
اهترئت أوراقه وارهفت صفحاته . . .
انظر كيف بللتها دموع الشوق إليك ودموع الفرحة بلقياك ، و كيف صارت ندية تنثني وكأنها تحتضر من حَر أنفاسي وأنا أناجيك
لقد انمحت الحروف وضاعت الكلمات و سال الحبر ، ولم يتبق منه سوى الغلاف و هذه النقوش الذهبية الباهتة .
انتظرت أن يقول شيئا لكنه أطرق في صمت طويل ، وأحست بسكون موحش يلف العلياء وكأن الضياء بدأ يخفت قليلا
فقالت : لم لا تجيبني . . . لم لا تقول شيئا ؟
لكنها لم تسمع ردا ، وشعرت بهبة ريح باردة جدا تطوف بالمكان
فنادت مرة أخرى وهي ترتعش : أجبني ، أجبني. . . لم لا تجيبني ؟ . . . ولكن لا مجيب !
ورأت كيف أخـــذ الظلام يبتلع الضياء ، وتَوَشح قمرها بسحابة كثيفة سوداء .
ولم تدر لم أصبحت النجوم فجأة تتراءى لها بعيدة . . . بعيدة جدا كما كانت ذات يوم .
وإذا بشرفتها تهوي شيئا فشيئا نحو القرار! والظلمة تزداد حلكة وتشتد حتى لم تعد تكاد تبصر شيئا . . .
وراحت تتحسس حواليها في جنح الظلام الى أن اهتدت الى الدرج الذي رمت فيه بشمعاتها المهجورة المنسية .
أوقدتها وعادت الى الشرفة تبحث عن قمرها وتسأل عنه الظلام :
هل أفل قمري ؟ هل غاب والليل لا يزال في أوله ، وشمس النهار لن تشرق الا بعد حين ؟
وعادت تنادي : أجبني ! أجبني ! ... ولا تسمع جوابا الا صدى صوتها الحزين يتردد بين الجبال .
وأحست بخصلاتها الطويلة تحجب الرؤية عن ناظريها فأزاحتها عن وجهها بانزعاج .
وراحت تبحث عن شرائطها الحريرية القديمة . . . و جَدَلت شعرها وعادت الى الشرفة تنتظر ووجهها مقبل الى السماء . . .
ولأنها اعتادت على غلالتها القمرية البيضاء التي تركتها هناك بالعلياء ، راحت تنسج من أحزانها وأحلامها غلالة أخرى بلون الليل
أسدلتها فوق وجهها ، و وهبت نفسها لساعات الانتظار الطويلة .
مساءات كثيرة مرت وتوالت بعد ذلك المساء . . . وشمعات كثيرة أوقدت واحترقت وسال دمعها .
والجديلتان ما زالتا تنتظران كل مساء ضوء القمر حتى تنفكا من قيدهما .
لكن ضوء القمر ما عاد أبدا بعدها . . . أفل ولم يعد .
بــقلمـــــي
تعليق