منصة زاجل الإجتماعية

تقليص

مختارات من خطب الجمعة

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سُلاف
    مشرفة المواضيع الإسلامية
    من مؤسسين الموقع
    • Mar 2009
    • 10535




    البــلاء والابتـــلاء





    الخطبة الأولى

    أما بعد: فاتقوا الله تعالى ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.

    معاشر المؤمنين، إن الله جل جلاله جعل الابتلاء سنة ليمحص إيمان المؤمنين الأتقياء، ويميز بين الصادقين والكاذبين الأدعياء، الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.
    الابتلاء طريق شاق سلكه حتى الأنبياء، ناح فيه نوح، ورمي في النار إبراهيم الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بدراهم معدودة، وذهبت من شدة البكاء عينا يعقوب، وذبح الحصور يحيى، وضني بالبلاء وطول المرض أيوب، وأدميت قدما رسولنا، صلى الله وسلم عليهم جميعا، فإذا ابتلي المسلم فليحمد الله رب الأرض والسماء، فإن هذا طريق الأنبياء والصالحين والأتقياء، وفي الحديث الصحيح: ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)).
    وقد قضى الله العليم الحكيم أن العسر يتبعه يسر، نعم إنّ الشدائد والبلايا مهما تعاظمت وامتدت فإنها لا تدوم على صاحبها، بل إنها عندما تشتد وتظلم وتطول فإن هذا دليل على قرب زوالها وانفراجها، فيأتي العون من الله والإحسان عند ذروة الشدة والامتحان، وهكذا نهاية كل ليل غاسق فجر صادق.

    عباد الله، الابتلاء سنة من سنن الله عز وجل، يبتلي الله عبده لعدة أمور، بل لعدة فوائد ومصالح لهذا العبد المبتلى وإن كان لا يشعر بها.
    أولها: الرفعة في الدنيا والرفعة في الآخرة، فإن المبتلَين أعظم الناس رفعة حيث يكونون مبتلَين في أول الطريق، فإذا صبروا واحتسبوا رفع الله ذكرهم أبد الدهر.

    ثانيا: التربية، فإن الله تعالى يربي القلوب بالابتلاء حتى تخلص لله وتصدق معه.

    ثالثا: تحقيق العبودية، فإن كثيرا من الناس إذا ابتلي سئم وتضجر ونكص على عقبيه، وارتبط بالأسباب ونسي المسبب سبحانه وتعالى، نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

    رابعا: من فوائد الابتلاء الأجر والمثوبة عند الله جل جلاله، وهو الذي لا تضيع عنده الودائع إذا ضاعت عند الناس، وهو الذي لا يخسر من يعامله بل يستفيد، وهو الذي لا يهزم من يتولاه بل ينتصر.
    فالزم يديك بحبل الله معتصما فإنه الركن إن خانتك أركان

    معاشر الكرام، ومما يخفف الابتلاء ـ كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله ـ أن تؤمن بالقضاء والقدر، فهذا الصحابي عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال لابنه لما حضرته الوفاة: (يا بني، عليك بالإيمان بالقضاء والقدر، فوالذي نفسي بيده إن لم تؤمن بالقضاء والقدر لا ينفعك عملك أبدا)، وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ((واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك))؛ لذلك فإن أول ما يخفف الابتلاء والمصيبة قضية الإيمان بالقضاء والقدر.
    ومما يخفف الابتلاء ـ يا عباد الله ـ أن تعرف أن الذي أصابك إنما هو قليل بالنسبة لما أعطاك الله، ماذا فقدت من أصابعك؟! هل فقدت إصبعا؟ لقد أبقى الله عددا كبيرا غيرها، فكيف إذا كانت أصابعك كلها موجودة وسليمة ولله الحمد؟! هل فقدت قدمك أو جزءا منها؟! معك قدم أخرى ولله الحمد، فكيف بالذي قدماه سليمتان يمشي بهما بكل يسر؟! عيناه أذناه لسانه شفتاه. اللهم لا نحصي ثناء وحمدا لك.

    وبشرى لكل من ابتلي بمرض أو هم وغمّ وكرب وسائر أصناف البلاء بشرى له إن هو صبر وصابر بأنه سيلقى الله وما عليه خطيئة. يا لله من جائزة عظيمة! ويا له من سلوان ينزل على قلب المصاب بردا وسلاما! هذا جزء من عقيدتنا بخالقنا آمنا به وصدقنا ما أخبر به المصطفى .

    أيها الإخوة الكرام، ومما يخفف وقع البلاء على النفس أن تنظر لمن حولك من الناس ممن هم مبتلَون ومصابون بأنواع البلاء تفوق بكثير ما حلّ بك، "وفي كل واد بنو سعد"، فلا تخلو أي دار وأي بيت من نوع من أنواع البلاء، وإذا أردت أن تعرف مقدار فضل الله عليك في صحتك ومالك وأهلك ووطنك فانظر إلى حال إخوانك المسلمين في غزة ولا تعليق، نعم ولا تعليق. إن التسلي بمصائب الناس وتذكّر ما بهم من محن ورزايا، إن ذلك مما يدفع أو يخفف الكرب على النفوس.
    أيها المسلم، احمد الله تعالى إذا أصبت في نفسك أو مالك أو ولدك ولم تصب في دينك، فإن المصيبة والفتنة في الدين هي أم المصائب، لا جابر لها إلا التوبة والعودة الصادقة إلى الحي القيوم.

    واسمعوا ـ عباد الله ـ إلى أولئك الصالحين في قصص عجيبة عذبة جميلة، ذكرها الله في كتابه رفعة وتخليدا لذكرهم، قال تعالى عن نبيه أيوب عليه السلام لما أصابه المرض العضال في سنين طوال: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أصيب عليه السلام بمرض في جسده، أتدرون كم استمر معه ذلك المرض؟ ثمانية عشر عاما، ثمانية عشر عاما لا يستسيغ طعما للطعام والشراب ولا يهنأ بنوم، فيا من أصيب في بدنه وجسده، ويا من يتألم من ألم في جسده، إليك مثلا كله صبر، كله إيمان ويقين: أيوب عليه السلام أصيب بمرض في جسده، مكث ثمانية عشر عاما لا يهنأ براحة، فقالت له زوجته: لِمَ لا تشتكي إلى الله وأنت نبي من أنبيائه فإنه يكشف الضر؟! أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، فقال: لا والله، لا أدعوه حتى تتساوى أيام صحتي وأيام ابتلائي، ولما سرى المرض في جسده وانتشر وكاد أن يصل إلى لسانه فرأى أيوب أنه سينقطع عن ذكر الله وتسبيحه وتهليله دعا ربه أرحم الراحمين بكل أدب وتوقير: مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أنا المريض وبيدك الشفاء، فإن كنت ترى أني قد أصبحت في حال ترضى لي فيه بالعافية فعافني فأنت أرحم الراحمين، فأحب الأمر إلي ما أحببته أنت لي، فجاءه الفرج من الله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ.

    وانظروا ـ عباد الله ـ إلى يعقوب عليه السلام، ما أحسن صبره وإيمانه يوم أن قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، ثم يقول: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ.

    معاشر الأحبة، إن الابتلاء بالأمراض والمصائب إنما هو من الأقدار التي يقدرها الله على الناس، وهو سبحانه أعلم بهم، وأعلم بمدى تحملهم أو عدمه؛ لذلك جاء في الحديث القدسي: ((يقول الله تعالى: إني أعلم بعبادي، إن من عبادي من لو ابتليته لما استطاع ولما صبر، ومنهم من لو عافيته لما شكر، فأنا أصرف عبادي كيف أشاء))، له الحكمة البالغة سبحانه وبحمده.
    فيا أيها المبتلى، أبشر فإنّ الله يحبك ويريد لك درجة عالية في الجنة لم تبلغها بأعمال صالحة، ولكن بصبرك على هذا الابتلاء واحتساب الأجر عند فاطر الأرض والسماء، فاصبر واحتسب فإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين...



    الخطبة الثانية
    أما بعد: معاشر المؤمنين، إن الناس يتقلبون في هذه الدنيا ما بين خير وشر ونفع وضر، وليس لهم في أيام الرخاء والسرور أنفع من الحمد والشكر لواهب النعم سبحانه وبحمده، ولا في أيام المحن والبلاء أنفع من الصبر والدعاء، وقد اقتضت حكمة الله أن ما من ليل مظلم إلا وبعده صباح مشرق مضيء، وما من شدة وضيق إلا ويعقبه فرج وخير، وأبلغ من ذلك قول الله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وعن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله : ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا))، ويقول عمر بن الخطاب رضي عنه وأرضاه: (مهما ينزل بامرئ شدة إلا جعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين).

    عباد الله، والكرب إذا اشتدّ وعظم وتناهى وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين تعلق قلبه بالله وحده، وهذه هي حقيقة التوكل على الله، وهو من أكبر الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، سئل رسول الله عن معنى قول الله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، فقال: ((إن من شأنه أن يغفر ذنبا، ويكشف كربا، ويرفع أقواما، ويضع آخرين)).
    أيها المبارك، إن من علاج المصائب والبلايا الاسترجاع: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، كما قال سبحانه وتعالى: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
    وفي هذا يقول رسولنا الكريم : ((ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أجاره الله في مصيبته وأخلف له خيرا)).
    كذلك أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

    وتذكر ـ أيها المبارك ـ أن المؤمن أمره كله له خير إن صبر واحتسب، والله عز وجل يبتلي العبد وهو يحبه ليسمع منه تضرعه ودعاءه ودوام قرعه لبابه، وإن كثيرا من الناس كانوا في غفلة عن ربهم وخالقهم، فلما أصابهم البلاء رجعوا إلى الله وإلى بيوت الله وإلى كتاب الله، أليس بلاء الله لهم كان رحمة بهم؟!

    أيها المبتلى بأي نوع من البلاء، اصبر واحتسب، فإن الله أراد لك ذلك وقدّره عليه، فارض بما قدّر الله تعالى.

    أسأل الله عز وجل أن يمتعنا جميعا بالصحة والعافية، وأن يجعلها في طاعته، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدا ما أبقيتنا، اللهم شافِ منا كل مريض، وعاف كل مبتلى...




    ********************************************
    خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : فيصل بن محمد العواسي






    تعليق

    • سُلاف
      مشرفة المواضيع الإسلامية
      من مؤسسين الموقع
      • Mar 2009
      • 10535









      فــضل اللين والرفــق في تعليم الأطفال






      الخطبة الأولى

      أما بعد

      أيها الإخوة الفضلاء: هنا حديث نبوي جليل حوى رفيع الأخلاق ومكارمها، وعظيم الرحمة وساميها، وحسن التربية وسليمها.

      حديث مَنْ تأمله رشد، ومَنْ وعاه هُدي، ومن عمل به أفلح ونجح، هو هدي حكيم، ونهج سليم، وفقه عليم، وهو منهاج حياة، ودعوة حكيمة، وقاعدة مثلى في حسن التربية والتوجيه، فاض درّه وجمانه من معلم الخير وقطب التربية وهادي الأمة وقائدها -عليه الصلاة والسلام-.

      أخرج الشيخان -رحمهما الله تعالى- في صحيحيهما عن أنس وأبى هريرة -رضي الله عنهما- قالا: بينما نحن جلوس في المسجد إذ دخل أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزرموه، دعوه"، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله -عز وجل- والصلاة وقراءة القرآن"، وفي لفظ قال: "دعوه، وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء -أو: ذَنوبًا من ماء-، فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".

      معاشر المسلمين: لقد رسم هذا الحديث الشريف أصولاً في التربية والتعليم، قلَّ من فقهها وعمل بها، فلقد شيد مبدأ التيسر واللين في الدعوة والتربية والإصلاح، ولقد أقام منهج الترفق الذي به يجنى الخير كله، ولقد أصل حسن الإنكار بما لا يبقي في نفس المخالف أدنى غضب أو انزعاج، بل عكس ذلك، قال الأعرابي المسكين: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا.

      ولقد جلّى الحديث الحكمة النبيلة التي أفلح النابهون في إصابتها، وحار المتعالمون في موضعها ومحلها.

      إلى متى ونحن نشكو فئامًا انحرفوا في أخلاقهم واشتطوا في أفعالهم وأقوالهم؟! فذاك أب لا يعرفه أبناؤه إلا بعصاه وغلظته وسبابه وشدته، وذاك معلم أبغضه تلاميذه؛ فلا يُذكر السوط والشدة إلا ويذكر اسمه وترى طلعته، أصبح السوط شعاره، والعنف دثاره، والفظاظة عنوانه وحواره ولا كرامة، غرس في نفوس التلاميذ بغضه وكراهته، ونحلهم عيوبه ومساوئه.

      إن هذا الحديث الشريف يسحق دعاوى متعالم شديد اللهجة والمعاملة، ويكسر راية جلف معسر، ويُقبِّح نهج معلم شاتم ضارب، فليست التربية والدعوة سبابًا وشتائم، وليس التعليم أسواطًا وملاحم، وليست الهداية تعسيرًا وشدائد.

      اعلموا -معاشر الآباء والمعلمين- أنه بالرحمة تدوم المحبة، وباليسر تأتلف الأرواح وتقوى العلاقات، وبالسماحة تثمر الدعوة والتربية ويصح التأسيس والبناء، وبالبشاشة يكسب المربي حب أبنائه وتلاميذه، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)

      كم أرهبت العصا وأفزعت من أقوام في غير محلها، وكم صرفت عمياء الشدة من محبين للعلم والفائدة، وكم أفسد العنف من أنفس طيبة دانية.

      إنا لنعلم أن كثيرين منكم يعرفون هذا الحديث كما يعرفون أبناءهم، لكنهم يجهلونه علمًا وتطبيقًا وسنة واقتداءً.

      أليس خيرًا كبيرًا أن يقلبَ الآباء والمعلمون العصا حزمًا حكيمًا، والشدة يقظة حسنة، والفظاظة سماحة ولطافة؟! لو لم يكن لهم في ذلك إلا حسن السمعة وزكاة المنهج وخضوع المخاطب لكفتهم، كيف وفي ذلك التوفيق والتأثير والقبول غالبًا؟! ولكن هل من مدكر؟‍‍‍‍‍‍!

      لقد كان قرار وزارة المعارف في منع الضرب في غاية الحكمة والبصيرة، فلقد بتروا حبال الظلم والحيف، وجزوا جذور التهور والانتقام، فليس بخافٍ على المستمعين ذاك المعلم الذي أدمى التلميذ الصغير بعصاه الغليظة أو آلته الفتاكة، وآخر جعل من عصاه مصدر رعب وتخويف شديد للتلاميذ، فقتل طموحهم وجمح إرادتهم وطمس شجاعتهم، وقد كان في راحة قلب لو امتثل الأدب والتواضع ومكارم الأخلاق، فالتربية أدب ورفق وأخلاق، قبل أن تكون عنفًا وتعاظمًا وأسواطًا، وفي الصحيحين عن جرير -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله"، ولما بعث معاذًا وأبا موسى معلمين إلى اليمن قال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا".

      وليعلم إخواني المعلمون والآباء أننا نبني الناس ونربيهم بأخلاقنا قبل أسواطنا، فليتأمل ذلك، والحديث خير شاهد، والضرب له أحوال خاصة.

      وفقنا الله وإياكم للخيرات، وجنبنا الغفلة والحسرات.

      اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

      اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين...


      الخطبة الثانية:

      الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

      أيها الإخوة: وفي ختام الحديث الشريف جملة سمت وعظمت لفظًا ومضمونًا، هي من محاسن الكلام وطيّب العبارات الصادقات: "فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".

      أنتم يا حملة الدعوة، ويا أرباب العلم والهداية، ويا متبعي محمد -صلى الله عليه وسلم-، أصل بعثكم للناس إنما هو باليسر والرحمة، إنما هو بالرفق والمعروف.

      لقد نبُلت ونفعت الدعوة والتربية التي انتهجت اليسر وارتسمت اللين، فكانت عليمة ميسرة رقيقة، وليس معنى اليسر في التربية هو التساهل والضعف كما قد يتوهمه بعض الناس؛ وإنما المراد أخذ الناس بالسهولة والسماحة مع مراعاة ما يجب ويلزم، دون تشدد أو تعنت أو مشقة، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)

      ومن يقرأ السيرة النبوية الشريفة ويتأملها يدرك منها اليسر والرفق في الدعوة والتعليم، فلقد كان -عليه الصلاة والسلام- رحمة للناس، يرحم ضعيفهم ويرفق بجاهلهم ويشفق على ضالهم، استشعر قول ربه تعالى له مع تمام التطبيق والامتثال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه"، وفيه أيضًا عن عائشة قالت: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أرسلني مبلغًا، ولم يرسلني متعنتًا"، وفي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله".

      اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

      اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا وعملاً يا أرحم الراحمين...



      *************************************************

      خطبة اليوم لفضيلة الشيخ: حمزة بن فايع الفتحي




      تعليق

      • سُلاف
        مشرفة المواضيع الإسلامية
        من مؤسسين الموقع
        • Mar 2009
        • 10535




        فضــل العشــــر الأُوَل من ذي الحجــة





        إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.

        وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيُّهُ وخليلُه، وخيرتُه من خَلقِه، وأمينه على وحيه، أرسله ربُّهُ رحمةً للعالمين، وحُجَّةً على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكثَّر به بعد القِلَّة، وأغنى به بعد العَيْلة، ولمَّ به بعد الشتات، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتصلت عينٌ بنظَر، ووعت أذن بخبر، وسلّم تسليما كثيرا.

        أما بعد:

        أيها الإخوة الكرام: الحمد لله القائل لما ذكر جل وعلا خلقه في عباده قال سبحانه وتعالى عن تفضيله جل وعلا بين الناس في الخلق وتفضيله بعض الأيام على بعض، وتفضيله بعض الأشهر على بعض، قال سبحانه وتعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) .

        فخلق الله تعالى الملائكة فاختار منها جبريل ليكون أفضلها، وخلق الله تعالى البشر فاختار الأنبياء ليكونوا هم أفضلَهم، واختار الله تعالى الشهور فاختار منها رمضان ليكون هو أفضلها، وخلق الله تعالى الأيام فجعل هذا اليوم وما بعده مِنْ أيامٍ هي أفضلها؛ ففي حديثٍ رواه البزار عن جابر -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الأيام عند الله أيام العشر".

        وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي أخرجه البخاري ومسلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبّ إلى تعالى من عشر ذي الحجة"، العمل الصالح عموما، من ذكر لله تعالى، أو صدقة على الفقراء والمساكين، أو بِرٍّ للوالدين، أو صلةٍ للأرحام، أو صلاةٍ، أو صيامٍ، أو قيامٍ، أو جهادٍ، أو حجٍّ، أو عمرةٍ، إلى غير ذلك من أنواعه. قال: "ما من أيامٍ العملُ الصالح فيهنّ أحب إلى تعالى من عشر ذي الحجة"، قال الصحابة: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟.

        وقد كان متقررا عندهم، كما هو متقرر عندنا، أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وأنه ما تقرب عبد إلى الله تعالى بعد تلفظه بالشهادتين بأفضل من أن يتقرب إلى الله تعالى بإراقة دمه في سبيل الله، قال الصحابة: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل؟ فهم كانوا يسمعون الأحاديث والآيات في فضل الجهاد، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله"، يعني أن العمل الصالح في هذه الأيام لا يعدله حتى لو خرج إنسان مجاهدا، فأيام ذلك المجاهد هي أقلُّ أجراً، وهي أنزل فضلا من المتعبد في هذه العشر.

        ثم اشترط النبي -صلى الله عليه وسلم- شرطا، واستثنى حالة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله"، خرج بنفسه، وأخذ ماله، خرج بنفسه وماله، "ثم لم يرجع من ذلك بشيء"، بذَلَ نفسَهُ وبذَلَ ماله لله -عز وجل-، وقلةٌ من المجاهدين مَن يأخذ أمواله معه، فإنهم في الغالب يخرجون بأجسادهم للجهاد في سبيل الله، وهناك من يتولى نفقتهم، أو أنهم ربما تركوا أموالهم وأخذوا بعضها نفقة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: لا يفضل المجاهد الخارج في سبيل الله، لا يفضل في عمله، عمل الذي هو قاعدٌ لكنه يتعبد في العشر، إلا إذا خرج المجاهد بنفسه واستشهد وخرج بماله كله في سبيل الله!.

        أيها المسلمون: دل هذا على أن فضل هذه العشر هو أفضل من التعبد في أيام رمضان، لا في لياليه، فإن ليالي رمضان أفضل من ليالي العشر، لكن أيام العشر، ما بعد صلاة الفجر إلى المغرب هي أفضل من أيام رمضان، بل هي أفضل من جميع أيام العام؛ لما تقدم في حديث جابر -رضي الله تعالى عنه-.

        قال الإمام ابن حجر -رحمه الله تعالى-، لما تكلم في فقه حديث ابن عباس، لما قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من العشر"، قال الإمام ابن حجر: "وذلك لاجتماع رؤوس العبادات، أو قال أمهات العبادات في هذه العشر"، فإنه يجتمع فيها الصدقة، ويجتمع فيها الصلاة، ويجتمع فيها الحج، ويجتمع فيها الصوم، وهذه الأربعة يستطيع أن يعملها الإنسان خلال هذه العشر؛ أما في رمضان فإنه يستطيع أن يعمل الصلاة، والزكاة، والصيام، لكنه لا يستطيع أن يعمل الحج في رمضان.

        وكذلك قُل غير ذلك في غيره من الأيام التي لها فضل، أما في هذه العشر فإن الله -جل وعلا- فضَّلَها فجعلها -سبحانه وتعالى- عشرا ولم يجعلها خمسا، فلو كانت تنتهي في الخامس من ذي الحجة فكان ليس فيها حج، لكنه لما مدها ربنا -جل وعلا- وضمنها يوم عرفة، وهو اليوم العظيم الذي يباهي الله تعالى بعباده يباهي ملائكته، وينظر الله تعالى إلى عباده وهم ما بين متعبد وداعٍ وباكٍ ومنكسر في أرض عرفات، والله -جل وعلا- يباهي ملائكته بهم.

        فدخول يوم عرفة في هذه العشر زاد من فضلها، ثم دخول يوم النحر، يوم الحج الأكبر الذي أكمل الله تعالى فيه الدين، وأنزل الشريعة، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه من الفضائل ما فيه اجتماع هذه الأيام الفاضلات على تنوعها وتنوع العبادات فيها وتفاوتها في الفضل، اجتماعها في هذه العشر يدل على فضلها أيها الإخوة الكرام.

        لقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فضل العشر الأوائل من ذي الحجة، وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- على اغتنامها، وحري بالمسلم إذا سمع من نبينا -عليه الصلاة والسلام- الكلام عن فضل شيء من الأعمال أن يؤثر ذلك في عمله، وألا تكون المسألة عندنا فقط معلومات نجمعها دون أن يكون لها تأثير في حياتنا.

        ما هو تأثير قول النبي -عليه الصلاة والسلام- لما مدحها فقال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر"، كيف يؤثر فيك هذا الكلام؟ هل يدفعك فعلا إلى أن تصلي الضحى في هذه الأيام العشر، وتقول: ما دام أن صلاة الضحى في هذه العشر أفضل من صلاة الضحى في غيرها، إذاً فسأكثر فيها من صلاة الضحى وأداوم عليها.

        ما تأثيرها عليك في قراءة القرآن؟ بعضنا ربما ختم القرآن في رمضان، ثم مَرَّ عليه الآن أكثر من شهرين وهو لم يختم القرآن مرة أخرى، ما تأثير الحديث الذي مدح هذه العشر عليك؟ هل دفعك إلى أن تقول: والله أنا سأختم القرآن خلال هذه العشر بإذن الله، فأقرأ في كل يوم ثلاثة أجزاء لا تستغرق مني ساعة أو ساعة وربع لأختم القرآن في هذه العشر؛ لأن قراءة القرآن أفضل وأعظم أجراً من قراءتي في غيرها، هل يؤثر فيك هذا الحديث فعلا فيدفعك إلى أن تكثر من قراءة القرآن فيها؟.

        هل يدفعك هذا الحديث إلى الصدقة إلى البذل من مالِك؟ كنت في السابق تقف مثلا عند محطة الوقود فتعطيه مثلا عشرين ريالا، وحسابك تسعة عشر، ثم تبدأ تنتظر حتى يرد إليك الريال، في هذه العشر، هل يتحرك شعور الصدقة عندك فتقول له: أبْقِ الريال عندك صدقةً لله تعالى؟.

        أو إذا مشيت بسيارتك ثم رأيت العمال البسطاء الذين تصهرهم الشمس صهرا وهم ينظفون الشوارع فذهبت واشتريت ماءً أو عصيراً أو خبزاً، أو اقتربت من أحدهم وتصدقت عليه، سواءً بهذا الطعام أو بمال وتقول في نفسك: يا ربي، لما سمعت نبيك -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر"، يا ربي، أنا أُسرع لأعمل بمحبوباتك ما دام أنك يا ربي تحب الصدقة في هذه العشر أكثر من محبتك لها في غيرها، فانظر إليَّ الآن وأنا أتصدق تقربا إليك يا ربي.

        ما دام يا ربي أنك تحب صلاة الضحى في هذه العشر أكثر مما تحبها في غيرها، يا ربي فانظر إليَّ الآن وأنا أقطع عملي وأقوم وأتوضأ وأستقبل القبلة تقربا إليك بما تحبه.

        ما دام أنك تمسك المصحف وأنت تعلم أن الله يراك فتقول في نفسك: ما دام أن ربي يحب مني قراءة القرآن الآن في هذه العشر أكثر مما يحبه في غيرها، يا ربي أنا أتقرب إليك بما تحبه، وأنا أعمل بما تحبه يا ربي، ولمـــَّا ذكرت لنا يا ربي أنك تحب شيئا سارعت إليه.

        إذاً يا ربي فعامِلْنِي بالحسنى؛ فأنا أحب صلاح ولدي فأصلِحْ ولدي يا ربي، يا ربي أنا أحب البركة في مالي فبارك لي في مالي يا ربي، يا ربي أنا أحب سلامة جسدي من المرض يا ربي فاصنع إلي ما أحب كما صنعت إليك ما تحب؛ فإن الله -جل وعلا- يعامل العبد بمثل ما يعامله العبد به، قال الله -جل وعلا-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ، فمن أراد أن يعامله الله تعالى بأن يذكره في السموات فاذكر الله تعالى أنت في الأرض يعاملك الله بمثل ما تعامله به.

        وقال الله -جل وعلا-: (نَسُوا اللَّهَ)، فلما نسوا الله، كيف عاملهم الله؟ (فَنَسِيَهُمْ) نسوا الله فلا يتصدقون ولا يذكرون ولا يتقربون، نسوا أن يتقربوا إلى الله، إنما ذكروا أنفسهم، ذكروا أولادهم، ذكروا زوجاتهم، فينظر ماذا يحب أولاده وماذا يكرهون، ينظر كيف يكثر ماله وكيف يحميه من أن يقل، ينظر ماذا تحب زوجته وماذا تكره، يذكر أولاده إذا دخل السوق، يذكر زوجته يذكر نفسه، لكنه نسي الله فهنا يكون جزاه كما يقول الله -جل وعلا-: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) .

        وقال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا) ، قال الله ( وَأَكِيدُ كَيْدًا) ، وقال -جل وعلا-: (وَمَكَرُوا مَكْرًا)، قال الله: (وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) .

        وبيَّن الله -جل وعلا- ذلك في كتابه في عدة مواضع من القرآن، بين الله -جل وعلا- أنه يصنع بالعبد كما يتعامل العبد معه، إلا أن الله تعالى أرحم بالعبد، وأقدر -جل وعلا- على الإحسان إليه، فربما أساء العبد مع ربه ولا يزال الله تعالى يعامله بالإحسان فضلا ومنة وكرما وجودا وإحسانا من ربنا -جل في علاه-.

        أيها الإخوة الكرام: والعمل الصالح في هذه العشر عملٌ متنوِّع، من أفضله أن يكثر الإنسان من ذكر الله -جل وعلا-، وهناك ذكرٌ مخصوصٌ، وهو أن يكثر العبد مِن أن يردد قائلا: الله اكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

        يقولها من بداية أيام العشر من اليوم حتى تنتهي هذه العشر، فإن كان حاجا وأحرم بالحج في اليوم الثامن فيسنّ له أن يكثر من التلبية، لا من هذا التكبير، وإن جمع بينهما فلا بأس، ثم إذا رمى الجمرة يوم العيد، وهي جمرة العقبة الكبرى، فإنه يقطع التلبية؛ لكنه يستمر في التكبير المقيد بعد الصلوات، أو المطلق أيضا، لا بأس به عليه، فأَكْثِرُوا من التكبير، أكثِروا من قول الله: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

        وقد كان عمر -رضي الله تعالى عنه- يبكِّر في الذهاب إلى مكة بالحج، ثم يقعد في خيمته في منى يقضي أمور الناس، ويحكم بينهم، ويفصل في خصوماتهم، ويفتيهم في مسائلهم، وهو يبكر من قبل يوم الثامن يذهب إلى منى، فكان -رضي الله تعالى عنه- وهو في خيمته يكبر: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، فيسمعه الذين خارج الخيمة فيكبرون بتكبيره، يذكِّرهم فيكبرون، قال فيسمعهم الذين وراءهم فيكبرون، حتى ترتج منى تكبيرا.

        وكان ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله تعالى عنهما- كانوا يخرجون إلى السوق في أيام العشر، ويرفعون أصواتهم بالتكبير، فيسمع الناس تكبيرهم فيكبرون.

        اجعل هذه سُنَّةً منشورة بسببك لا مهجورة إذا خرجت إلى السوق أو جئت إلى المسجد أو في أي موطن كنت فارفع صوتك بالتكبير، فإنه نشر للسنة، وتذكيرٌ للناس، وتنبيهٌ للغافل، وتعليمٌ للجاهل، لمن سوف يعجب يقول: لماذا يكبر هذا؟ فيقال له: هذه أيام العشر يُسَن فيها أن يكثر العبد من التكبير، عندها يكبر هذا الإنسان ويكون لك مثل أجره.

        فالله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

        أيها الأحبة الكرام: ويستحب للإنسان أن يكثر أيضا من الصدقة في هذه العشر، فإن الله -جل وعلا- يكافئ الإنسان بعمله القليل بأجر كبير، والله -جل وعلا- بين ذلك في كتابه فقال -سبحانه وتعالى-: (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) ، وهو الرزق من الله تعالى، وكما قال قوم قارون لقارون: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، ما عنك من مال وما عندك من خبرة وما عندك من قوة ومن علاقات، (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)

        وقال الله -جل وعلا-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، أَكْثِرْ مِن الصدقة قدر استطاعتك.

        وأفضل الصدقة كما بيَّن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الصدقة على ذي الرحم الكاشح، يعني على ذي الرحم الذي ربما يعاملك معاملة سيئة ومع ذلك أنت تتصدق عليه، ربما يكون عندك أخ يعاملك معاملة جافة أو أخت أو عمة أو خالة أو ربما كان أبا أو أما أيضا، كل مَن كان ذا رحم عندك فالسنة أن تقدمه في الصدقة على غيره، فإن كان رحما كاشحا ربما يعاملك معاملة جافة وأنت مع ذلك تحسن إليه فهذا أفضل الصدقة.

        قالت أم سلمة -كما في الصحيح- يا رسول الله، أرأيت أني يا رسول الله أني قد أعتقت وليدتي، كان عندها جارية مملوكة وأعتقتها، وفي الإعتاق من الأجر والفضل العظيم الشيء الكثير، يقول -عليه الصلاة والسلام- حثا على إعتاق الرقاب: "من أعتق عبدا لله أعتق الله بذلك العبد كل عضو منه عضوا من معتقه من النار" أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

        فالعتق له فضله، لذلك أمر الله تعالى به كفارة لقتل الخطأ وللوطأ في نهار رمضان ولعدد من الأعمال التي ربما يقع فيها الإنسان فيأمر بالكفارة، فهي تقول: يا رسول الله، أرأيت أو علمت أني قد أعتقت وليدتي، وهي فرحانه بهذا، فقال -عليه الصلاة والسلام- منبها لها إلى عمل هو أفضل من العتق، قال لها: "أما أنكِ لو أخبرتيني"، أنك تنوين أن تخرجيها من ملكك، يعني بالإعتاق أو بغيره، المهم أن تباعديها عنك، "أما انك لو أخبرتيني لأمرتك أن تعطيها أخوالكِ"، يعني أن تبقيها رقيقة مملوكة؛ لكن تحسنين بها إلى أخوالك؛ لأنهم فقراء ويحتاجون إلى من يساعدهم في البيت، فجعل -عليه الصلاة والسلام- الإحسان إلى ذي الرحم والصدقة عليه والهبة له أفضل عند الله تعالى من العتق، مع ما في العتق من الأجر العظيم.

        وما أجمل أن يعوِّد الإنسان نفسه أنه إذا رأى مسكينا في الطريق أو عامِل نظافة بادية عليه الحاجة فيحسن إليه، ويعوِّد أولاده على ذلك، يعطي ولده ريالا ويقول: ناديه يا ولدي وأعطيه له، يحرك مثل هذه المشاعر.

        والصدقة -أيها الأحبة- ينتفع بها المرء في حياته قبل مماته، وكم من مشكلة وقعت فيها يسر الله حلها بسبب صدقة تصدقت بها يوما! وكم من مصيبة نزلت بك فخففها الله عنك أو رفعها بسبب صدقة تصدقت بها! وكم من ظلمٍ كان سيقع عليك ثم رده الله تعالى عنك بسبب صدقة تصدقت بها! وكم من إنسان كان في كروبات فلما تعرف إلى الله تعالى برحمته لعباده أنزل الله تعالى عليه رحمته.

        ونحن نحتاج أيها الأحبة إلى أن نتعرف إلى الله تعالى ببعض الأعمال، حتى إذا وقعت في كربة كذا قلت: اللهم اكشف عني هذه الكُربة بعملي ذاك الذي قدمته بين يديك، "تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".

        كم من أشخاص يقيمون في هذه البلد وعندهم أخوة أو أخوات أو أقارب يعلمون أنهم في فقر شديد، ماذا لو أنك خصصت 500ريال أو 600 أو 1000 وبعثت إلى هذا 100 أو 150 أو 200 ريال وقلت هذه هدية بمناسبة العيد، حتى لو كانت من زكاتك إذا كانوا محتاجين؟ يعني زكاتك للعام القادم، لا بأس أن تقدمها الآن خلال هذه العشر؛ توسعة عليهم.

        وكذلك الإكثار من قراءة القرآن، وهو الذكر العظيم: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) ، هو رفعة لنا ولأمتنا، وما أعز الله تعالى هذه الأمة ورفع شأن العرب عموما إلا لما أنزل هذا القرآن (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ، فجعل الأعاجم يتمنى أحدهم لو أتقن لغة العرب وهم أقل عددا من غيرهم، ومع ذلك يتمنون لو تعلموا لغتنا لتلاوة هذا القرآن العظيم (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ، رفعة لك ولقومك.

        أكثِر من قراءة القرآن، فـــ "مَن قرأ حرفاً من كتاب الله كان له به حسنة، لا أقول: "الم" حرف، ولكن "ألف" حرفٌ، و"لامٌ" حرف، و"ميمٌ" حرف"، والحسنة بعشر أمثالها، أكثر من تلاوة القرآن، ورَبِّ أولادك على ذلك حتى لو جعلت لهم جوائز، المهم أن يشعروا بأن هذه الأيام هي أفضل في القربة إلى الله تعالى من غيرها.

        أسأل الله -جل وعلا- أن يعيننا على اغتنام الأيام والساعات الفاضلات، وأن يجعلنا الله تعالى فيها من المقبولين، أستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


        الخطبة الثانية:

        الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، واستنَّ بسنته إلى يوم الدين.

        أما بعدُ، أيها الإخوة الكرام: ومن أفضل الأعمال في هذه العشرِ الصيامُ، فإن الله -جل وعلا- جعله خاصا به، كما قال -عليه الصلاة والسلام-، يقول الله تعالى: "كُلُّ عملِ ابن آدمَ له، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولَخلوفُ فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".

        وقد جاء عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- كما في الصحيحين أنها قالت: ما رأيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صائما أيام العشر قطُّ، وجاء عن حفصة -رضي الله عنها- ذكَرَتْ أنها رأت النبي -صلى الله عليه وسلم- صائما في أيام العشر، وقد جمع النووي وابن حجر وغيرهم من شُراح الحديث بين الحديثين، حيث إن لأيام عائشة -رضي الله عنها- كانت تسعة أيام أو ثمانية أيام، فربما رأته في العشر في يومها مفطرا، لكنه صام في بقية الأيام.

        أيها المسلمون: ومن أحكام هذه العشر أنَّ مَن أراد الأضحية في هذه العشر فإنه لا يأخذ من شعره ولا أظفاره شيئا، لا شعر رأسك ولا من شعرٍ آخر في الجسد، لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا، يحرم ويستثنى من ذلك مَن كان سوف يحُجُّ متمتعا أو قارنا وسوف ينحر هدياً هناك في مكة، فإن الهدي يقوم مقام الأضحية، فإذا كنت سوف تحج قارنا أو متمتعا وسوف تذبح هدياً في مكة فإنك ليس عليك أضحية أصلا، وبالتالي لا بأس عليك اليوم وغدا خلال هذه العشر أن تأخذ من شعرك وأظفارك حتى يدخل عليك وقت الحج وتُحرم، عندها قف عن شعرك وأظفارك. هذه مسألة.

        المسألة الثانية: الذي يجب عليه الإمساك هو المسؤول عن الأضحية، الأب، ولو أن الأب وكَّلَ أحد أولاده فيبقى الإمساك واجبا على الأب، إلا إن كان الإنسان يفعل ذلك تبرعا عن مُتَوَفَّى، فإنه يمسك؛ لأنه هو الذي تعلق به أحكام الأضحية.

        وتكفي الأضحية لمن يسكنون في بيت واحد، والأضحية سنة وليست واجبة، وكذلك لو أن إنساناً سافر إلى أهله في عيد الأضحى، هل تسن له الأضحية أم يدخل في أضحية أبيه، الجواب أنها سنة في حفه، لأنه مستقل طوال السنة، ومكوثه أيام الذبح مع أبيه لا يسقطها.

        والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أن أفضل ما يتقرب به العبد لله تعالى يوم العيد إراقة الدم، وهي تأتي يوم القيامة بقرونها وأظفارها وشعرها فتوزن للعبد، وفي حديث حسَّنه بعض أهل العلم أن للمضحي بكل شعرة حسَنة، فطيبوا بها نفسا كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

        أيها الأحبة الكرام: والحج بلا شك قربة إلى الله تعالى، ولكن خلال مؤخرا سهل وصول الناس للحج لتعبيد الطرق وتطور وسائل النقل، وبالتالي ظهرت أنظمة لضبط الناس، من ذلك أنه لا يحج الإنسان إلا بتصريح ليعرف عدد الحجاج فيتم تنظيم الأوضاع بناء هذا العدد، فهذا التصريح لمصلحة الحجاج لا لمصلحة الحكومة؛ لذا فإن أكثر أهل العلم نهوا عن الحج بغير تصريح منعا للخلل.

        أسأل الله -جل وعلا- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستثمرون الأيام والساعات الفاضلات، وأن يجعلنا الله تعالى من المقبولين.




        *******************************************


        خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : محمد بن عبد الرحمان العريفي








        تعليق

        • سُلاف
          مشرفة المواضيع الإسلامية
          من مؤسسين الموقع
          • Mar 2009
          • 10535




          التوكــل علـى اللــه





          الحمدُ للهِ ذي الألطافِ الواسعةِ والنعمِ، وكاشفِ الشدائدِ والنقمِ ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجودِ والكرمِ ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه الذي فُضِّل على جميعِ الأممِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلم .

          أما بعدُ عبادَ اللهِ :


          فإن مِن سعادةِ العبدِ أن يرزقَه اللهُ - تعالى - حُسنَ التوكُّلِ عليه في أمورِه كلِّها؛ وإنّ بلوغَ هذه المنزلةِ لهو من أعظمِ الامتنانِ والتفضلِ على العبدِ ؛ فمن توكَّلَ على اللهِ عز وجل - حقَّ التوكلِ - سكن قلبُه ، واطمأنت نفسُه؛ ولذّ عيشُه ، ذلك أن حقيقةَ التوكلِ هي صدقُ اعتمادِ القلبِ على اللهِ -عزَّ وجلَّ- في استجلابِ المصالحِ ، ودفعِ المضارِّ من أمورِ الدنيا والآخرةِ ، وتفويضِ الأمورِ كلِّها إلى اللهِ - سبحانه - وتحقيقِ الإيمانِ بأنه لا يُعطي ولا يمنعُ ولا يضرُّ ولا ينفع سواه ، وهذه منزلة لا يبلُغها إلا الصدّيقون ، قال سعيدُ بنُ جُبير: « التوكلُ جماعُ الإيمانِ » .

          فالتوكلُ عبادةٌ قلبيةٌ محضةٌ ، ليست قولاً باللسانِ ، ولا عملاً بالجوارحِ ، ولذلك ؛ قال الإمامُ أحمدُ : « التوكلُ عملُ القلبِ » .

          فلابد للقلبِ أنْ يكون متعلقاً باللهِ - حق التعلُّقِ - ، وأنْ يوقِنَ العبدُ بأن مردَّ الأمورِ إلى اللهِ ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .


          ولِعِظَمِ منزلةِ التوكلِ فقد جاءت الأدلةُ الكثيرةُ تَحُثُّ عليه وتبيِّنُ منزلتَه ليأخذ به المسلمُ لما فيه من حلاوةِ العيشِ وحُسنِ العاقبةِ ، فقد قال اللهُ - تعالى - : (( و من يتوكل على اللهِ فهو حسبُه)) أي: كافيه ، وقال: (( وعلى اللهِ فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )) .

          وجاء عن النبيِّ -صلى اللهُ علي وسلم - قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكلِه لرزقكم كما يرزقُ الطيرَ ، تغدو خِماصاً وتروح بِطاناً».

          ففي هذا الحديثِ ضرب النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ - المثلَ بالطيرِ على ضعفِه ، وأن الله قد تكفَّل له بالرزقِ وهداه لأسبابِه ، وهذا مما يورثُ اليقينَ عند العبدِ بأن عَيْشَه مكفولٌ ، فإذا علم ذلك أورثه ذلك حسنَ ظنٍّ بربِّه - سبحانه - ، لأن المتوكلَ حقيقةً مَن يعلمُ أن اللهَ قد ضمِنَ لعبِده رزقَه وكفايتَه ، فيصدقُ الله فيما ضمنه ، ويثق بذلك حقَّ الثقة ، ويحقِّقُ الاعتمادَ عليه فيما ضمِنَه مِن الرزقِ ، وأن الرزقَ مقسومٌ لكلِّ أحدٍ من بَرٍّ وفاجر ، ومؤمنٍ وكافرٍ ، كما قال - تعالى - : (( وما من دابةٍ في الأرضِ إلا على اللهِ رزقُها )) هذا مع ضعفِ كثيرٍ من الدوابِّ وعجزِها عن السعيِ في طلبِ الرزقِ ، فما دام العبدُ حياً فرِزقُه على اللهِ ، وقد يُيَسِّرُه اللهُ بكسبٍ أو بغيرِ كسبٍ ، وإن كان بذلُ الأسبابِ مطلوباً .


          والتوكلُ دليلٌ على حسنِ ظنِّ العبدِ بربِّه ، قال محمدٌ الذهليُّ : سألت الخريبي عن التوكلِ ، فقال: « أرى التوكلَ حُسْنَ الظنِّ باللهِ » ، فعلى قدرِ حسنِ ظنِّ العبدِ بربِّه ورجائهِ له يكون توكلُه عليه ، فحُسنُ الظنِّ بالله يدعو العبدَ إلى التوكلِ عليه ؛ إذ لا يُتصورُ التوكلُ على من ساء ظنُّه به ، ولا التوكلُ على من لا يرجوه ، وهذا ما فعله أولياءُ اللهِ - تعالى في أحلكِ الظروفِ ، وأصعبِ المواقفِ حيث فوضوا أُمورَهم إلى اللهِ -عز وجلَّ- لحُسنِ ظنِّهم بكفايتِه لهم ، قال ابنُ عباسٍ - رضي اللهُ عنهما - : « حسبُنا اللهُ ، ونِعمَ الوكيلُ ، قالها إبراهيم -عليه الصلاةُ والسلامُ - حين أُلقي في النارِ ، وقالها محمدٌ - عليه الصلاةُ والسلامُ - حين قالوا: ((إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهٌم إيمَانَاً ، وَقَالُوا: حَسبُنَا اللهُ ونِعمَ الوكيلُ » .

          فهذا بيانٌ لحالِ الأنبياءِ - عليهمُ الصلاةُ والسلامُ - وكيف بلغ بهِمُ التوكلُ على اللهِ - تعالى - ، وحُسنُ ظنِّهم به على الرّغمِ مما هم فيهِ من الخوفِ والضنكِ الشديدِ فكان قولهم حسبنا الله ونعم الوكيل؛ أي: أنه كافينا في مهماتِنا ومُلماتِنا ، وهو نِعم الكافي ومن نُفَوِّضُ له الأمرُ .


          فإبراهيمُ - عليه الصلاةُ والسلامُ - لما دعا قومَه إلى التوحيدِ وكسّر أصنامَهم أوقدوا له ناراً عظيمةً ، ثم رمَوه فيها ، فلما رمَوه قال : حسبُنا اللهُ ونعم الوكيلُ فكانت النتيجةُ أن أنجاه اللهُ من النارِ قال - تعالى - : (( قُلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم )) فنجاه اللهُ لِحُسنِ ظنِّه به وصِدْقِ توكلِه عليه .


          و لما رجعَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم - مِن غزوةِ أُحدٍ - وقد هُزِم المسلمون فيها وأصابهم غمٌّ شديدٌ وضَنَكٌ عظيمٌ وقُتِل منهم خلقٌ كثيرٌ - جاء مَن أخبر النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم - أنَّ المشركين عزموا على العودةِ إلى النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم - وصحابتِه ليستأصلوا بقيَّتَهم ، وقد جمعوا لذلك الجموعِ فما كان من النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وصحابتِه إلا أن فوَّضوا أمرَهم إلى اللهِ وأحسنوا الظنَّ به - سبحانه - وزادهم ذلك الأمرُ - على شدتِه - إيماناً ، وقالوا: حسبُنا اللهُ ونعم الوكيلُ .

          فما كانت النتيجةُ ؟


          قال تعالى: ((فانقلبوا بنعمةٍ مِن اللهِ وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ ، واتبعوا رضوانَ اللهِ والله ذو فضلٍ عظيمٍ)).

          وفي ذلك أعظمُ دليلٍ على أن الإنسانَ مهما مسَّه من الضنكِ والشدائدِ إن لجأ إلى اللهِ - سبحانه - في أمورِه أعانه وتولاه و نصرَه ...

          لكنَّ البلاءَ العظيمَ أنَّ بعضَ الناسِ إذا مسَّه الكربُ لجأ إلى الأمورِ الماديةِ يبحثُ - من خلالِها - عن الفرجِ ، ولو تعلق قلبُه بخالقِه لكفاه ما أهمَّه .


          ثمَّ إن اعتمادَ القلبِ على اللهِ - تعالى - واستنادَه وسكونَه إليه يُذهِبُ عنه ما يكون في القلوبِ من التشويشِ ، والخوفِ مِن فواتِ الأسبابِ لِعِلمِه أن هذه الأسبابَ بيدِ مُسبِّبِها - سبحانه - ، ولذلك ؛ لا يُبالي بإقبالِها وإدبارِها ، ولا يضطربُ قلبُه ويَخفقُ عند إدبارِ ما يُحبُّ منها ، وإقبالِ ما يكرهُ ؛ لأن اعتمادَه على اللهِ وسكونَه إليه ، واستنادَه إليه ، قد حصَّنَه مِن خوفِها ورجائها ، فحالُه في ذلك حالُ مَن خرجَ عليه عدوٌّ عظيمٌ لا طاقة له به ، فرأى حِصناً مفتوحاً فأدخله صاحبُه إليه ، وأغلق عليه بابَ الحِصنِ ، فهو يشاهدُ عدوَّه خارج الحصنِ فاضطرابُ قلبهِ وخوفُه من عدوّه في هذه الحالِ لا معنى له .


          و مَثَلُه في ذلك مَثَل الطفلِ الرضيعِ في اعتمادهِ وسكونِه وطمأنينتِه بثديِ أمِّه ، لا يعرفُ غيرَه ، وليس في قلبِه التفاتٌ إلى غيرِه ، ولذلك ؛ قال بعضُ العلماءِ : المتوكِّلُ كالطفلِ ؛ لا يعرفُ شيئاً يأوي إليه إلا ثديَ أمِّه ، كذلك المتوكلُ لا يأوي إلا إلى ربِّه - سبحانه -


          وروحُ التوكلِ ولبُّه وحقيقتُه في تفويضِ الأمورِ إلى اللهِ ، وأن يُلقي المرءُ أمورَه كلَّها للهِ - سبحانه - وإنزالُها به طلباً واختياراً ، لا كرهاً واضطراباً ؛ بل كتفويضِ الابنِ العاجزِ الضعيفِ المغلوبِ على أمرِه أمورَه إلى أبيه العالِمِ بشفقتِه عليه ، ورحمتِه ، وتمامِ كفايتِه ، وحسن ولايته له ، فهو يرى أن تدبيرَ أبيه له خيرٌ من تدبيره لنفسِه ، وقيامَه بمصالِحِه وتوليَه لها خيرٌ مِن قيامِه هو بمصالِح نفسِه وتوليه لها ، فلا يجدُ له أصلَحَ ولا أرفقَ من تفويضِه أمورَه كلَّها إلى أبيه ، وراحتِه مِن ثِقَلِ حملِها ، مَعَ عَجزِه عنها وجهلِه بوجوهِ المصالحِ فيها ، وعِلمه بكمالِ مَن فوّض إليه وقدرتهِ وشفقتِه .


          وقد قال اللهُ - تعالى - فيما حكاه عن مؤمنِ آلِ فرعونَ - حيث قال: (( وأفوِّضُ أمري إلى الله )) ،والمفوِّض لا يفوِّض أمرَه إلى اللهِ إلا لإرادتِه أن يقضي له ما هو خيرٌ له في معاشِه ومعادِه ، وإن كان المقضي له خلافُ ما يظنُّه خيراً فهو راضٍ به ، لأنه يعلم أنه خيرٌ له ، وإن خفيت عليه جهةُ المصلحةِ فيه ، وهكذا حال المتوكلُ سواءً ، بل هو أرفعُ من المفوِّضِ ؛ لأن مقامَ التوكّلِ اعتمادُ القلبِ كلِّه على طاعةِ اللهِ بعدَ تفويضِه .


          ومِن أجلِّ ثمراتِ التوكلِ على اللهِ الرضا بما يُقدِّرُه اللهُ - سبحانه - ، وهذا مِن أعظمِ درجاتِ العبوديةِ ، قال بشرٌ الحافي - رحمه اللهُ - :« يقولُ أحدُهم : توكلتُ على اللهِ ، يكذبُ على اللهِ ، لو توكل على اللهِ لرضي بما يفعلُه اللهُ به».

          فمن وكّل اللهَ - سبحانه - في أمرِه : فمِن تمامِ عبوديتِه أن يرضى بما كتبَ اللهُ له وقدّره عليه فيما وكّل اللهَ فيه من الأمورِ .


          و مَن تأمَّلَ الجزاءَ الذي جعله اللهُ - تعالى - للمتوكِّل عليه ، وأنه لم يجعلْه لغيره عَلِمَ أن التوكلَ أحبُّ السبلِ الموصلةِ إليه - سبحانه - ؛ فقد قال - تعالى - : (( ومَن يتوكل على اللهِ فهو حسبُه )) .

          بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ


          الخطبةُ الثانيةُ


          الحمدُ للهِ الذي فتحَ لأربابِ البصائرِ أنوارَ الهدى ، أحمدُه - سبحانه - ، تنزّه عن كلِّ النقائصِ ، وعلى العرشِ استوى ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فالقُ الحبِّ والنوى ، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه - صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّمَ تسليماً كثيراً .


          أما بعدُ ...

          أيُّها المسلمونَ :


          فإن مِن تمامِ التوكلِ الأخذَ بالأسبابِ ، ولا يعني التوكلُ أنْ لا يأخذَ العبدُ بالأسبابِ ؛ لأن تركَ الأسبابِ جملةً ممتنعٌ عقلاً وحساً ، وما أخل النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - بشيءٍ من الأسبابِ ؛ فقد لبس درعين يومَ أحدٍ ، واستأجرَ دليلاً مشركاً يدلّه على طريقِ الهجرةِ ، وكان إذا سافر في حجٍّ أو جهادٍ حَمَلَ الزادَ والمزادَ ، وهكذا فعل أصحابُه -رضي اللهُ عنهم - وهم أولو التوكلِ حقاً .


          ومَعَ كونِ الأخذ بالأسبابِ من تمامِ التوكلِ فإن الواجبَ على المُسلمِ أنْ لا يلتفت قلبُه إلى الأسبابِ ؛ بل إلى مسبِّبِها - سبحانه - ؛ فقد يجمع المرءُ جميعَ الوسائلِ الماديةِ ، ولا يتمُّ له ما عزم عليه ، فإن الأمورَ بيدِ اللهِ .


          ولما كان الأمرُ كلُّه للهِ - سبحانه - ، وليس للعبدِ فيه شيءٌ البتةَ : كان توكلُه على اللهِ تسليمَ الأمرِ لمَن هُوَ لَه ، وعزْلَ نفسِه عن منازعةِ مالِكِه ، واعتمادَه عليه فيه ، وخروجَه عن تصرفِه بنفسِه وحولهِ ، وقوّته إلى تصّرفِّه بربِّه ، وكونِه به - سبحانه - دون نفسه ، وهذا مقصودُ التوكلِ .


          فإذا عزل العبدُ نفسَه عن مقامِ التوكلِ عزلَها عن حقيقةِ العبوديةِ ، وقد خاطب اللهُ سبحانَه - في كتابِه - بالتوّكلِ خواصَّ خلقِه وأقربَهم إليه وأكرمَهم عليه ، وشَرَط في إيمانِهم أن يكونوا متوكلين ، وهذا يدلُّ على انتفاءِ الإيمانِ عند انتفاءِ التوكلِ ، فمن لا تَوَكُّلَ له لا إيمانَ له ،قال اللهُ - تعالى - : ((وعلى اللهِ فتوكلوا إن كنتم مؤمنين))؛وقال - تعالى - :((وعلى اللهِ فليتوكلِ المؤمنون )) ، وقال - سبحانه - : ((إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ اللهُ وجِلَت قلوبُهم وإذا تُلِيَت عليهم آياتُه زادتهم إيماناً وعلى ربِّهم يتوكَّلون)) و هذا يدل على انحصارِ المؤمنين فيمن كان بهذه الصفةِ ، وأخبر - تعالى - عن رسُلِه بأنَّ التوكلَ ملجأُهم ومعاذُهم ، فقال - تعالى - : ((وقال موسى يا قومِ إن كنتم آمنتم باللهِ فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا..)) ، وقال رسلُ اللهِ وأنبياؤه : (( ومالنا أن لا نتوكلَ على اللهِ وقد هدانا سبُلَنا)) .

          فالعبدُ آفتُه إمّا مِن عدمِ الهدايةِ ، وإما مِن عدم التوكّلِ ، فإذا جمع التوكلَ إلى الهدايةِ فقد جمع الإيمانَ كلَّه .


          وقد كان في دعاءِ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ما يدلُّ على توكلِه الدائمِ على خالقِه -سبحانه- ؛ فكان من دعائه -صلى اللهُ عليه وسلم - قولُه: «اللهم لك أسلمتُ ، وبك آمنتُ ، وعليك توكلتُ ، وإليك أنبتُ وبك خاصمتُ» .

          فإذا كان هذا حالَ الأنبياءِ -صلواتُ ربي وسلامُه عليهم - فينبغي على المسلمِ أن يقتديَ بهم ، وأن يستشعرَ حقيقةَ التوكلِ في قلبِه ، والتي ينتجُ عنها ترجمةُ هذه العقيدةِ القلبيةِ على لسانِه وجوارحِه ، ويوقنُ أشدَّ اليقينِ بأنَّ العبدَ إذا توكلَ على اللهِ - تعالى - أورثه ذلك علماً أكيداً بأنه لا يملكُ لنفسِه ولا لغيرِه حولاً ولا قوة ، وأن استطاعتَه بيدِ اللهِ لا بيده ، فهو مالِكُها دونه ، وأنه إنْ لم يعطه الاستطاعةَ فهو عاجزٌ ، وأنه لا يتحركُ إلا باللهِ لا بنفسِه ، ولذا ؛ كان من دعائه - صلى اللهُ عليه وسلم -: «يا حيُّ يا قيومُ برحمتِك استغيثُ ، أصلح لي شأني كلَّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين» .

          وكان من دعاء عليِ بنِ الحسينِ - رحمه اللهُ - : « اللهم لا تكلني إلى نفسي فأعجز عنها ولا تكلني إلى المخلوقين فيضيّعوني »

          فالواجبُ على المسلمِ أن يلزمَ التوكلَ ؛ لأنه محضُ العبوديةِ ، وخالصُ التوحيدِ ، إذا قام به صاحبُه حقيقةً ، ومن ترسخت في قلبِه هذه العقيدةُ فهو الموفَّقُ حقاً .

          اللهم اغفر لنا وارحمنا؛ وتوفنا وأنت راضٍ عنا..



          **************************************

          خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : أبو عمر سالم العجمي




          تعليق

          • سُلاف
            مشرفة المواضيع الإسلامية
            من مؤسسين الموقع
            • Mar 2009
            • 10535





            سنـة هجــرية جديـدة مقبـلــة ...




            الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، أوجد كل مخلوق وقضى عليه بالفناء، وهدى من شاء لما فيه رشده، وأعلى من شاء ممن سبق عليه القدر والقضاء.

            أحمده سبحانه وهو الرب المحمود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير رسول أرسله. اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن آزره وبجله.

            أما بعد:
            فيا أيها الناس.. أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلانية واعلموا أن تقوى الله سبب لنيل السعادة في الدنيا والآخرة.

            عباد الله:
            قد استقبلتم عامًا جديدًا فاسألوا الله أن يجعله عام خير وبركة، وأن يعلي فيه كلمته وينصر فيه جنده المدافعين عن محارمه وحوزته ويرزقهم الإخلاص في كل ما يقولون ويفعلون.

            عباد الله:
            إنكم في شهر المحرم، نهاكم الله فيه أن تظلموا أنفسكم، حرمه الله وعظمه وجعل صيامه أفضل الصيام بعد صيام رمضان، وخص اليوم العاشر فيه بالتشريف والتفضيل، أنجى الله فيه نبيه موسى ومن آمن معه وأهلك فيه عدوهم فرعون ومن اتبعه.

            ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل)

            وعن علي - رضي الله عنه - قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا عنده فقال: يا رسول الله أي شهر تأمرني أن أصوم بعد رمضان، فقال: (إن كنت صائمًا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله فيه يوم تاب الله فيه على قوم، ويتوب الله فيه على قوم)

            وأما العاشر منه فهو اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فوجد اليهود يصومونه فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه موسى شكرًا لله فنحن نصومه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه). وذلك أن موسى لما خرج من مصر ومعه من آمن به من بني إسرائيل ليلة اتبعهم فرعون بغيًا وعدوانًا يريد القضاء عليهم ويصدهم عن دين الله، فلما رآه القوم قالوا: يا موسى إنا لمدركون، قال موسى: كلا إن معي ربي سيهدين، فألجأهم فرعون وجنوده إلى البحر فأوحى الله تعالى إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فضرب موسى البحر بعصاه فتقطع اثنتي عشرة قطعة وكان فيه اثنا عشر طريقًا سهلًا يابسًا لا وحلًا ولا حزنًا فسلكه موسى ومن معه فتبعه فرعون وجنوده فلما أن نجى موسى ومن معه وتكامل فيه فرعون وجنوده أمره الله فانطبق عليهم فعاد بحرًا متلاطم الأمواج في لمح البصر أو أدنى فلما رأى عدو الله فرعون أنه غارق لا محالة قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. فقيل له الآن حين لا ينفعك إيمانك لأنك لم تؤمن إلا لما أيقنت بالهلاك: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾

            هيهات قد أغلق الباب وحيل بينك وبين الإيمان.

            وصيام اليوم العاشر من هذا الشهر ورد في فضله أنه يكفر السنة التي قبله فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صيام يوم عاشوراء أتحسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)

            ولما كان اليهود المكذبون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومون هذا اليوم لهذا القصد الذي هو شكر الله أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمخالفتهم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صوموا يوم عاشوراء خالفوا اليهود صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده). وفي رواية (صوموا يومًا قبله ويومًا بعده).

            عباد الله:
            إن الله تعالى يحب من عباده إذا أنعم عليهم نعمة أن يشكروه عليها وفي هذا الحديث دليل على أن دين الأنبياء واحد وهدفهم واحد وهو التوحيد في العبادة والقصد؛ حيث إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى اليهود يصومونه سألهم عن ذلك فقالوا صامه موسى شكرًا لله فنحن نصومه فصام - صلى الله عليه وسلم - وأمر بصيامه اتباعًا لموسى وشكرًا لله تعالى على نعمته عليه ومن معه حيث نجاهم وأهلك عدوهم....

            والحمد لله رب العالمين.



            ****************************************


            خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : عبد العزيز الدهيشي










            تعليق

            • سُلاف
              مشرفة المواضيع الإسلامية
              من مؤسسين الموقع
              • Mar 2009
              • 10535






              حقوق المعاق في الإسلام




              الخطبة الأولى

              إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:

              فيا أيُّها النَّاسَ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى، عباد الله، الابتلاء سنة ربانية ماضية على ما اقتضى حكمة الرب وعدله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، ومن هؤلاء الذين ابتلوا بالمصائب المعاقون ذو الاحتياجات الخاصة، والإعاقة حقيقتها إصابة الإنسان من آفات أو نقص في بدنه، وفقد بعض حواسه، وعقله وسلوكه، وهذا المبتلى إذا صبر ورضي، وطمأن قلبه كان ذلك خيرا له، فإن البلاء من أوسع أبواب تكفير الخطايا والسيئات، يقول صلى الله عليه وسلم: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَذًى مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلاَّ تحاط خطاياه كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ فِي نفسه ومَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وليس عليه خَطِيئَةٍ"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ غَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ وَلاَ أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بها مِنْ خَطَايَاهُ".

              أيُّها المسلم، وإن الإسلام اهتم بشؤون المعاقين كاهتمامه بسائر الناس، لأن الحق العام هو مشترك فيما بين الجميع، ولهذا نوه الله بذكره: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ويقول جلَّ وعلا: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)، أتى عبدالله بن متكوم للنبي صلى الله عليه وسلم يسأله وعند النبي أحد رجال الكفر والضلال وقد مال إليه النبي وجاء ليسلم لأن في إسلامه يسلم كثيرا من أتباعه، وكأنه أعرض عن ابن مكتوم لا إعراضا عنه ولكن طمعا في إسلام ذلك الإنسان فعاتب الله نبيه بقوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى*أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى*فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى*وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى*وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى* وَهُوَ يَخْشَى* فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)، فكان النبي إذا لقيه يقول: "مرحبا بمن عاتبني به ربي".

              أيُّها المسلم، ومظهر عناية الإسلام بالمعاقين في أمور:

              فأولا: أن هؤلاء المعاقون إنسان مثلنا في الإنسانية والبشرية يدخلون في عموم قوله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)، فهو إنسان مثلك فإعاقته لا تحط من قدر إنسانيته، ولا يجب التكبر والتعالي عليه.

              أمر ثاني: أن الله جلَّ وعلا جعل الكريم عنده من أتقاه وأطاعه، قال جلَّ وعلا: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فأكرمنا أتقانا لله ليس من صحة أبداننا ومظهرنا، وإنما صلاح قلوبنا وأعمالنا، يقول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأبدانكم؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"، إن الرحمة بالإسلام التي تطلب العون والإحسان، وجاءت بها شريعة الإسلام تضرب المثل الأعلى في المحافظة على حقوق الإنسان المعاق أولى بها من غيره، لأن الأمة الإسلامية أمة تراحم وتعاون وتعاطف لا يمكن أن يضيع بينهم معاق يقصره شيء من الأمور والناس في غنى وفضل وراحة.

              ومن ذلك أيضا من مظهر الرعاية في الإسلام المعاقين: أنه أمر بمخالطتهم، ونهى عن التقزز عنهم، فإن في مخالطتهم أناسا لهم، وإظهاراً بشعور المحبة والمودة وإنهم إخوانه في الدين والإنسانية يستند إليهم، ويتقوى بهم، وهذا شأن المسلمين في أحوالهم كلها.

              ومن ذلك: أن الله أسقط عن المعاق شيئا من التكاليف الشرعية، فالصلاة الخمس يصليها الإنسان قائما فإن عجز عن القيام صلاها قاعدا، فإن عجز عن القعود صلاها على جنب، فإن عجز صلاها مستلقيا على قدر طاقته، وكذلك صوم رمضان إذا كانت الإعاقة تمنعه من الصوم أطعم عن كل يوم مسكينا: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، والحج إلى بيت الله الحرام إن قدر بدنيا فالحمد لله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)، وإن عجز عن بدنه وأمكنه النيابة بماله فعل وإلا سقط عنه، فإن: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا).

              أيُّها المسلم، وعلى المبتلى الصبر والثبات، وسؤال الله العافية والرضا بما قضاء الله وقدر: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ عجب إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ ذَاكَ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ"، يقول الله جل وعلا: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).

              أيُّها الإخوة، أيُّها المسلمون، وللمعاقين في الإسلام حقوق عظيمة فمن حقوقهم: أن تهيأ الحياة الكريمة لهم، ليعيشوا مع إخوانهم السالمين في راحة وطمأنينة.

              ومن ذلك تخفيف بعض المسؤوليات عنهم.

              ومن ذلك أيضا: تهيأت الجو العام لتعليمهم وتثقيفهم، وإيصال الخير لهم.

              ومن ذلك أيضا: رعايتهم الصحية، بعلاجهم والإشراف على ذلك، ومساعدتهم في العلاج الصحي أو الأجهزة المطلوبة ووسائل النقل، أو الإعانة في الزواج ونحو ذلك، واستئجار المحل، ولأن كانت الدولة وفقها الله ممثلة في الضمان الاجتماعي قد أداة واجبا كبيرا، ورتبت لهذا المعوقين مكافئة على قدر حالهم، إلا أن المجتمع المسلم مطالب بالقيام بواجبه.

              أيُّها المسلم، ومن حقوقهم علينا: أن لا ننظر إليهم نظرة الازدراء والاحتقار، وإنما ننظر نظرة الرحمة والمودة وإحسان.

              ومن حقهم علينا أيضا: أن لا نغتابهم، ونلمزهم لأجل عيبهم، فالله يقول: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

              ومن حقهم علينا: أن لا نسخر ربهم ونستهزئ بهم فإن هذا أمر خطير، يقول الله جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ).

              أيُّها المسلم، يا من يتمتع بالصحة والعافية ويتقلب في نعم الله صباحا ومساءا في صحة وغنى وعافية، أحمد الله على هذه النعمة، وعلم أنها فضل من الله عليك: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ)، احذر، احذر الازدراء، والاحتقار، والتكبر على هؤلاء، فإن الذي أعطاك هذه النعمة قادر أن يسلبها منك طرفة عين: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

              أيُّها المسلم، عامل هذا المعاق معاملة إسلامية حسنة، فلا تخدعنه لكونه معاقاً في بصره، أو معاقا في سمعه، أو معاقا في رأيه وفكره، فتستغل ذلك بغشه وخداعه والتلبس عليه، عامله بالحسنى، عامله معاملة إنسان قادر مفكر بصير بالأمور، أما أن تستغل إعاقته البصرية أو السمعية أو الفكرية فتستغله بالغش والخداع والتلبس عليه، والتحايل على أكل ماله فإن هذا أمر محرم لا يجوز لك؛ بل أتقي الله في ذلك، أرحم هؤلاء رحمة تدل على إيمانك وإخلاصك.

              إن أمة الإسلام اعتنوا بالمعاقين أيما اعتناء سواء كانوا من المسلمين أو الذميين، لم يفرقوا بين أحد من ذلك لأن الإسلام دين رحمة، ودين إحسان، ودين عدل: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، ولقد اعتنى الخلفاء الراشدون من بعدهم من هذه النوعية فرتبوا لهم مستحقات، وأعانوهم، وحفظوا لهم حقوقهم، لأن دين الإسلام، دين الرحمة، دين الكرامة والإنسانية، إن من يدعي أن الإسلام أهمل هذه الحقوق دعوة باطلة؛ بل الإسلام سبق كل المجتمعات في المحافظة على الحقوق الإنسانية والعناية بها، لأن نبينا نبي الرحمة: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).


              إذا فعلينا أن ننظر إلى هذه الفئة نظرة احترام ورحمة وعطف وإحسان، والمساعدة في كل ما يهمهم من علاج أو وسائل نقل، أو أجهزة يحتاجون إليها، أو إعانة في الزواج، أو تسهيل تملك مسكن أو تأجيره إلى غير ذلك من الحاجات التي لابد منها، وإن أعطوا من الزكاة فلا مانع إذا كانوا فقراء عاجزين فهم أولى من غيرهم، أسأل الله لي ولكم العافية في الدنيا والآخرة، أقولٌ قولي هذا، واستغفروا الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.



              الخطبة الثانية

              الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعد:

              فيا أيُّها النَّاس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، عباد الله، إن المسلم واجبا بأن يؤمن أن الله حكيم عليم فيما يقضي ويقدر، وأن كل قضاء قضاه الله، فعلى كمال حكمة الرب وكمال علمه، وكمال عدله، وكمال رحمته: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، هذا الابتلاء الإنسان في نفسه أو ولده أو ماله إما لتكفير حسنات ورفع الدرجات، وإما لحط الخطايا والسيئات: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ).

              فعلى هذا المعاق أن يشعر بهذا الأمر وأن يشمر فيه، ويجتهد في القيام بما يستطيع القيام به قال صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ ولاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ لكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ".

              أيُّها المسلم، إن الإعاقة ليست إعاقة نسبية فقط؛ لكن الإعاقة الحقيقية الإعاقة البصيرة إعاقة الروح والقلب، فالمعاقون في أفكارهم، والمعاقون في بصائرهم وعقولهم هم أشد ضررا من هذا المعاق في جسده، لأن هذا المعاق في جسده إذا اتقى الله ونوى الخير كفر الله به السيئات ورفع به الدرجات؛ لكن المعاقون في أفكارهم وبصائرهم وعقولهم هؤلاء هم البلاء العظيم، نسأل الله السلامة والعافية: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ)، (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)، وأهل النار يقولون: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) قال الله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ)، فإعاقة البصيرة والعمى عن الهدى، وإعاقة القلب عن التفكر والتدبر هي المصيبة والبلية.

              أيُّها المسلم، إذا نظرة إلى مبتلى فعرف عظيم نعم الله عليك، ترى من فقد بصره أو سمعه أو قدميه أو نحو ذلك، فحمد الله على نعمته عليك وقل: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلى بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً"، أنظر إلى ممن هو دونك في الصحة والعافية لتعرف عظيم نعم الله عليك، فشكر الله على نعمته، وليكن نظرك لأهل البلاء نظر اعتبار ونظر اعتراف لله في الفضل في أحوالك كلها، فإن الله يحب من عباده أن يشكروه ويثنوا عليه: "إِنَّ اللَّهَ يحب من عبده أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا وْيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا"، على المسلم يسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، كان صلى الله عليه وسلم إذا التقى بالعدو قال: "أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا"، فالمسلم يسأل الله العافية؛ لكن إذا أبتلي رضي بقضاء الله وطمأن بذلك: (وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)، أموال المعاقين ما يتم مكافئتهم من الضمان وغيره يجب حفظها ورعايتها، والإنفاق عليه منها وعدم التعدي عليها، وتوفيرها لهم بأن حاجاتها أكثر من حاجة غيرهم، فعلى الجميع تقوى الله في الأحوال كلها.

              واعلموا رحمكم الله أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.

              واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.

              اللَّهمَّ أمنَّا في أوطاننا وأصلح ولاة أمرنا وفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

              عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.




              *****************************************


              خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : عبد العزيز آل الشيخ








              تعليق

              • سُلاف
                مشرفة المواضيع الإسلامية
                من مؤسسين الموقع
                • Mar 2009
                • 10535





                حسـن الجــوار وحقــوق الجـــار





                الحمد لله الذي أمرنا بالبرّ والصلة ونهانا عن العقوق، وجعل حقّ المسلم على المسلم من آكد الحقوق، وجعل للجار حقًّا على جاره وإن كان من أهل الكفر والفسوق.

                أحمده تعالى أن سلك بنا مسالك الأبرار، ودعانا إلى إحكام الصلة بالأهل والجوار، ووعد الصادقين الطائعين النجاة في الدنيا والفوز بالنعيم في دار القرار.

                ونشكره تبارك وبه الوثوق، ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له هو الخالق وكل شيء سواه مخلوق، شهادة تزيدنا من الله قربًا، وتنمي ما اشتملت عليه جوانحنا إخلاصًا إليه وحبًّا. ما زالت حليفة القلب واللسان، خاتمة قولنا في الدنيا ويوم الفزع ويوم عرضنا على الملك الديان، فتجمعنا بحبيبنا ومن سبقونا في أعلى جنان.

                ونشهد أنّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق المصدوق، نبيّ دعا لربه ليلاً ونهارًا، وبلّغ رسالته سرًّا وجهارًا، فكان أفضل الخلق جارًا، وأرجاهم لله وقارًا. اللهم فصلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد الناطق بأفضل منطوق، صلاة لا ينقطع لها مدد، ولا يحصر لها حدّ ولا عدد، وعلى آله وصحبه المؤدين للحقوق، وعلى التابعين لهم بإحسان من سابق ومسبوق.

                أمّا بعد:

                أيّها الناس: اتّقوا الله واعلموا أنّ حقّ الجار على جاره مؤكد بالآيات والأحاديث، وما زال جبريل يوصي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالجار حتى ظنّ أنّه سيشركه في المواريث، ولا يسيء الجوار ويؤذي الجار إلاّ لئيم خبيث، غمّاز همّاز لمّاز منّاع للخير معتد أثيم، بكل فساد في الأرض يعيث، سيره في الخير بطيء وسيره في الشرّ حثيث.

                لذلك كان الإسلام دينًا داعيًا إلى الحياة المدنية، مفضلاً لها على الحياة البدوية، هو دين الاستقرار والنظام، لا دين التهميش والفوضى، وإنّ الحياة في البادية والمدينة لتيسّر للناس أسباب التعاون، وتساعدهم على التساند والتلاحم والتقارب والالتقاء في الأفكار والأفعال، وتمهد لهم تبادل المنافع واقتسام الأدوار الفاعلة في الحركة الحياتية اليومية.

                وقد كان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون الذّمار، ويتفاخرون بحسن الجوار، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار.

                والإسلام يأمر بحسن الجوار والمجاورة ولو مع الكفار، وشرّ الناس من تركه الناس اتقاء شرّه، وتباعد عنه من يعرفه تجنبًا لضرّه، وأخبث الجيران من يتتبّع العثرات، ويتطلّع إلى العورات في سرّه وجهره، وليس بمأمون على دين ولا نفس ولا أهل ولا مال؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". وقال -عليه الصلاة والسلام-: "المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنّة من لا يأمن جاره بوائقه". قالوا: وما بوائقه؟! قال: "شرّه".

                وبما أن المجتمع الإسلامي يعتبر الجار فردًا من أفراد العائلة لا يخفى عليه الأمر حتى ينكشف له، ولا تتستّر عليه دخائل بيت جاره حتى تستبين، وكما يعتبر الجار في السكن فكذلك الجار في المتجر والسوق، هو جارك تطّلع على مشترياته وبيوعاته وتعرف زبائنه، فله حقوقه، وكذلك جارك في مكتب عملك لشدّة الاتصال المكاني بينكما هو جارك، وله حقوقه.

                وقد ربّى الإسلام المؤمنين على أمر جوهري: هو كفّ الأذية بأن لا تتخذ من معرفتك لأحوال جارك سبيلاً لطعنه من خلف، وللاعتداء عليه، ومن عوراته بابًا تنفّذ منه أغراضك؛ فقد أخرج البخاري عن أبي شريح أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: ومن يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه".

                رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أعرف الناس برّبه، وأكثرهم تعظيمًا لمولاه وتقديرًا لخالقه، يقسم بالله ثلاثة أيمان متتالية، يقسم بأنه غير مسلم وغير مؤمن، بأنه بعيد عن جماعة المؤمنين، وبأنه سيحشر في النار مع المكذبين الضالين، ويحلف دون أن يبيّن هذا الذي خسر دنياه وأخراه، ويجيب عندما سأله الصحابة عن هذا الهالك: ذلك الذي لا يأمنه جاره، ذلك الذي يخافه جاره يخاف المهالك التي يتسبّب له فيها. نعوذ بالله من غضب الله، أي خزي أكبر من هذا، أكبر من أذية الجار والصديق وابن الحيّ والقريب وابن الأهل وابن الأحباب.

                وأذية الجار أنواع: منها الحديث بما يجري في بيته، وكشف أسراره للناس، أو تسرقه أو تسمعه ما يكره.

                عار عليك -أيها المسلم- أن تبيت شبعانًا تعاني التخمة، وجارك طاوٍ جوعان، وعار عليك أن تلبس الجديد وتبخل بما أبليت من ثيابك على ذوي الخصاصة من جيرانك، وعار عليك أن تتمتّع بالطيّبات من مشموم ومطعوم وجيرانك يشتهون العظام وكسر الطعام، وأنت تعلم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا نساء المسلمات: لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة". وأنّه قال لأبي ذرّ -رضي الله عنه-: "يا أبا ذرّ: إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعهّد جيرانك".

                كيف يليق بك -أيها المؤمن- أن تقيم في بيتك الأفراح، وفي البيت الذي بإزائك مآتم الموت والأتراح؟! هل تجرّدت من العواطف والشعور، وهل نسيت أوامر الدين وعادات آبائك الأكرمين أيها المغرور؟! إنّ من حقّ جارك عليك أن تسلّم عليه إذا لقيته، وأن تعوده إذا مرض، وتشيّعه إذا مات، وتكون لأولاده بعد وفاته كما كان لهم في حياته، وأن تقف إلى جانبه في السرّاء والضرّاء والشدّة والرّخاء، وفي المثل السّائر: "من فاته نفع إخوانه، فلا يفوتنّه نفع جيرانه". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره".

                حرام عليك -أيها المسلم- أن تنظر في بيت جارك وهو غافل أو تخونه في أهله، ومن نظر في بيت جاره بغير إذنه ملأ الله عينه من نار جهنّم؛ روى الشيخان عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟! قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك"، قلت: ثم أي؟! قال: "أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك"، قلت ثم أي؟! قال: "أن تزاني حليلة جارك". فهذه ثلاث مراتب ذكرها ابن مسعود وهو يسأل ورسول الله يجيب بوحي من ربّه.

                أكبر الذنوب وأعظمها الشرك بالله، وبعد ذلك قتل النفس، و يصدر في الحديث قتل النفس بكونه أن يقتل الإنسان ولده خوف الفقر، والطّامة الثالثة والكبيرة التي بعد ذلك: أن تزني بزوجة جارك. والزنا بزوجة الجار فيه ذنبان: الأول: هو الزنا. والثاني: هو خيانة الأمانة. وهذا دليل على خسّة النفس وفقد النبل. ونحن هنا لا ننفي مسؤولية زوجة الجار، فعلى المرأة أن تعلم أن جارها أجنبيّ عنها، يجب أن لا تبتذل نفسها أمامه، بل عليها أن تأخذ نفسها بالحشمة والستر والمروءة أمام الجار، فإنّ الذباب لا يقع على الطهر وإنما على العسل السائل والسكر المفتوح والقذارة المنكشفة، فعلى كل امرأة أن تساعد نفسها على حفظ كرامتها وشرفها وعزّة زوجها وصيانة مكانته في المجتمع الذي يعيش فيه، ولا نرى أفضل ولا أكبر مناعة لذلك لتحاشي مجرّد الكلام والتلسين، عدم السماح لأي كان بدخول العشّ المقدّس للزوجية في غياب ربّ البيت، وخصوصًا إذا كان ابن خال أو ابن عمّ أو ما شابه ذلك، باستثناء المحرم.

                ولا نظنّ أنّ هذه الحقوق هي للجار الذي تربطنا به قرابة أو مودّة، وإنما هي حقوق تفرض نفسها بمقتضى الجوار والجوار وحده، وهذا ما فهمه الصحابي الجليل عمرو بن العاص؛ فقد روى الترمذي عنه، أنّ شاة ذبحت له في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟! أهديتم لجارنا اليهودي؟! أهديتم لجارنا اليهودي؟! سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".

                عباد الرحمن: ماذا نستخلص من خطبتنا اليوم؟! وما يمكن لكل مؤمن أن يتدبر في المواعظ والعبر التي أتينا عليها اليوم؟! ومن لم يتعظ ولم يتدبر، فكأنما لم يحضر الجمعة، فخلاصة خطبتنا تتمحور في مفهوم الحديثين الشريفين، أو الوصيّتين التين خصّ بهما سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرجال والنساء من أمّته:

                الوصية الأولى خصّ بها الصحابي أبا ذرّ الغفاري حين قال له: "يا أبا ذرّ: إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعهد جيرانك".

                وفي الوصيّة الثانية ينبّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساء المؤمنين: "يا نساء المسلمات: لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة، أي لو طبخن كراع شاة"، لقد خصّكن بالوصاية، وفي ذلك شرف لكل امرأة سمعت كلام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فامتثلت وعلمت هديه، فاتبعت ما جاء فيه، أوصاكن بأن لا تحقر الجارة شيئًا من جارتها، وكأنّه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يوصيكنّ بأن لا تتأخر إحداكن على إعانة ومساعدة جارتها، أن لا تحقّرها إن طلبت مساعدة بسيطة، أن لا تحقر جارتها إذا هي أهدتها شيئًا حقيرًا، فيجود الكريم بما عنده، وكم من هدية بسيطة قليلة صادقة هي أعمق وأفضل من هدية ثمينة يراد التعالي والتبرّج بها.

                وإنما خصّ النساء بمزيد الوصيّة؛ لأن النساء كثيرًا ما يظهر منهن احتقار الجارة إذا كانت فقيرة، فاتقين الله -يا نساء الإسلام- ولتعلمن أن المال غادٍ ورائح، وأن العار ليس في الفقر، وإنما العار كل العار في التباهي بالغنى الذي هو نعمة من نعم الله و توظيفه في التعالي على الفقراء واحتقارهم، ولا تنسوا جميعًا أن الله هو الغنيّ و أنتم الفقراء، فلا إله إلاّ الله يغني من يشاء ويفقر من يشاء، وفي ذلك حكمة لا يعلمها إلاّ هو.

                يا أيها الذين آمنوا: استمعوا لكلام الله، فإن آياته تزيد المؤمنين إيمانًا وتظلّهم سحائبه رحمة وخيرًا وإيمانًا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [النساء: 36]، صدق الله العظيم.

                أقول ما سمعتم، فإن كان حسنًا فمن الله، وإن كان سيئًا فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدي ولوالديكم ولجميع المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.





                الخطبة الثانية:




                الحمد لله الذي جعل الأمانة حملاً ثقيلاً، ودعا الجار للقيام بها لأنه كان ظلومًا جهولاً، ومدح القائمين بأماناتهم والموفين بعهد الله، فأثنى عليهم ثناءً جميلاً، وذمّ المخلّين بها الذين يشترون بعهد الله وبآياته ثمنًا قليلاً. (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام: 3].

                نحمده تعالى ونسأله العفو والعافية وبرّه وإحسانه، ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، أمرنا بحفظ أمانة الجوار، ونهانا عن خيانتها واحتقارها.

                ونشهد أنّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بخير شريعة وأفضل ديانة، والقائل -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة"، وحاشا رسول الله أن يظلم أو يخون.

                اللهم فصلّ وسلم على سيدنا محمد المنجز وعده، والموفي بعهده، وعلى آله وصحبه من بعده، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يبعثون.

                أيها الناس: اعلموا أن الجوار أمانة، وإن أول ما يرفع من هذه الأمة الأمانة، وآخر ما يبقى فيهم الصلاة، ولا خير فيمن لا أمانة له وإن أقام الصلاة وإن آتى الزكاة، فالخائن مبغوض عند الله وملائكته والناس أجمعين، متهاون بدينه ودنياه، قبيح المعاشرة، سيئ المعاملة، منزوع البركة في بيعه وشرائه، حلاّف مهين، مستخفّ باليمين، يقول في كل شيء: لا والله، وبلى والله: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [المنافقون: 2]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة في طعمة". فاعتبروا يا أهل الإيمان.

                و"آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان"، ويوم القيامة ينصب لكل خائن غادر لواء يعرف به، فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان، ومن غشّنا فليس منا، ومن شهر علينا السلاح فليس منا، وإن أكثر من التسبيح والتهليل وتلاوة القرآن، (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 9].

                قال رجل: يا رسول الله: إنّ فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها، قال: "هي في النار"، قال: يا رسول الله: فإن فلانة تذكر من قلّة صلاتها وصيامها وأنها تتصدّق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: "هي في الجنة".

                "أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء. وأربع من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيّق". والله تعالى يحبّ جارًا صبر على أذيّة جاره حتى يكفيه الله إياه بتحوّل أو موت. وحذار من الدخول في مهاترات المحاكم من جرّاء خصومات النساء أو مشاجرات الصبيان. والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهم إنّي أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحوّل". وقال -عليه الصلاة والسلام-: "اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب".

                أحبّتي في الله: بعض الناس لا يبالي بغيره إذا تمت راحته، ولا يهمه أن يكون عباد الله كلهم ساخطين عليه وأن تدنّس ساحته، ما دام ينال قصده ويصل إلى مراده ويتمتّع بشهواته ولو كان في ذلك هلاك غيره؛ لذلك تراه بغيضًا في إخوانه، ممقوتًا في جيرانه، وخفيفًا في ميزانه، وسخيفًا عند من يعرفه من أهل زمانه؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الله قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم بينكم أرزاقكم، وإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدين إلاّ من أحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبّه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه".

                جعلني الله وإياكم من خيار خلقه، وبارك لي ولكم في الطيّبات من رزقه، وأجارني وإياكم من أذيّة الجار والتهاون بحقّه، آمين يا رب العالمين.

                عباد الرحمن: كل شيء دون الله باطل، وكل نعيم دون نعيم الجنة زائل، فتحبّبوا إلى الله بإقامة الفروض، وتقرّبوا إليه بالنوافل، فإنّه من أحبّه كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإذا سأله أعطاه ما هو سائل، وإذا استعاذ به أعاذه من مكروه العاجل والآجل، فعامل الله -يا عبد الله-، واعلم أنك إليه واصل، ومن هذه الدنيا راحل، كما رحل الأوائل، ولا يخدعنّك الشيطان بزخارف الدنيا وما فيها، ولا يصرفنّك عن الآخرة فإنّك آتيها، واتّق الله وأصلح الأعمال فإنّك ملاقيها، وعند الحكم العدل ستوافيها.

                رحم الله من خالف الشيطان، وجانب العصيان، واتقى النيران، وأكثر الإحسان، وأدام ذكر الرحمن. رحم الله من اعتصم بالله وأناب إلى الله، وتوكل على الله، واشتغل بذكر الله. رحم الله من زهد في الدنيا، ورغب في الآخرة، وصبر على الأذى وشكر على النعماء، واشتغل بذكر المولى. رحم الله عبدًا اجتنب الطاغوت، وقنع من الدنيا بالقوت، واشتغل بذكر الحي الذي لا يموت.

                فاتقوا الله -أيها الناس- وصلوا وسلموا على سيد رسله وخاتم أنبيائه والشافع المشفع عند الله يوم نلقاه، المنزل عليه إرشادًا وتعليمًا وتشريفًا له وتعظيمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، اللهم فصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين هم فيما عند الله راغبون، ومما لديه راهبون.

                اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين. اللهم انفعنا بكتابك نفعًا يصقل إيماننا، ويجدّد حماسنا، ويرجع للدين سلطانه. اللهمّ يمّن كتابنا، ويسّر حسابنا، وفكّ أسرنا، واستر عوراتنا، واغفر زلاّتنا، واغسل حوباتنا، وأذقنا حلاوة القرب منك يا رب. وصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

                عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، اذكروا الله يذكركم، واشكروه عل آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر وأعلى وأعظم، والله يعلم ما تصنعون، وقوموا إلى صلاتكم إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.



                ****************************************

                خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : محمد الشاذلي شلبي التونسي




                تعليق

                • سُلاف
                  مشرفة المواضيع الإسلامية
                  من مؤسسين الموقع
                  • Mar 2009
                  • 10535



                  سوء الظــن بالعبــاد وأثـره على المجتمـع







                  إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضْلِل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والنظير، وأشهد أن مُحَمَّداً عبده ورسوله، وصفه وخليله، وخِيرَتُه من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربُّه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، و كَثَّر به بعد القِلَّة، وأَغْنَى به بعد العَيلة، ولمَّ به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتَّصَلَتْ عَيْنٌ بنظَر، ووعَت أذن بخبَر، وسلَّم تسليماً كثيراً.

                  أما بعد:

                  أيها الإخوة المؤمنون: أمَر اللهُ تعالى جميع أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- بأن يُرَبُّوا الناس على الفضائل، وينهوهم عن الرذائل وكان من دعاء نبي الله إبراهيم -عليه السلام- أنه قال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .

                  فطلب إبراهيم -عليه السلام- من رب العالمين الملك العلام بأن يبعث في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً منهم وهو -محمد عليه الصلاة والسلام-؛ ليعلمهم الكتاب والحكمة، ولأجل أن يزكيهم، يعني يربيهم على حسن الأخلاق وينهاهم عن سيئها.

                  فبيَّن الله حال العلماء فقال -جل وعلا-: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) ، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كونوا ربانيين، أي علِّموا الناس بصغار العلم قبل كباره، وربوهم عليه.


                  فأمر الله تعالى بتربية الناس على الأخلاق الحسَنَةِ من حُسن الظن بالآخرين، وعدم السوء بهم، والإحسان إليهم، وكفّ الأذى عنهم؛ وبيَّنَ الله -جل وعلا- فضل ذلك في كتابه، وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مثل هذا الخلق الحسَن يرفع الله تعالى به صاحبَه درجات.

                  أيها الإخوة الكرام: وإن مما بدأ ينتشر اليوم في زماننا خلق من الأخلاق السيئة قال الله تعالى فيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ، فأمر الله تعالى باجتناب أكثر الظن حتى لا يقع المرء في سوء الظن.

                  وإذا نظرت اليوم في واقعنا فستجد أن سوء الظن له تأثيرٌ سيِّءٌ في الواقع، فكم طُلِّقَتْ من زوجات! وكم فشلت من تجارات بسبب سوء الظن! وكم ضُيعت من أموال! وكم شُرد من عيال بسبب سوء الظن! وكم أزهقت من أرواح، وكم سُجن من أشخاصٍ بسبب سوء الظن، وكم وقعت من خصومات ومن مشكلات كبار بسبب سوء الظن، وكم عُصِيَ الملِكُ العلَّام، وقُطِّعَت الأرحام، بسبب سوء الظن.

                  فلله العجب مما يفعله سوء الظن في الأزواج، وبين الأبناء وآبائهم، وبين الجيران! بل ربما دخل أحيانا بين طلبة العلم فقطع الأوصال التي بينهم، وبدل أن يتعاونوا على البر والتقوى ربما بدأ بعضهم يكيد للآخر، ويشتغل بعرضه، وينهى الناس عن اتباعه أو الصلاة معه!.

                  لذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر من الظن عموماً، ويقول -عليه الصلاة والسلام- :"إياكم والظنَّ!" يعني: إياك أن تظن شيئاً ثم تتخذ قراراً في حياتك بناءً على هذا الظن، قال: "إياكم والظنَّ! فإن الظن أكذب الحديث"، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكانوا عباد الله اخواناً" رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد.

                  فقوله -عليه الصلاة والسلام- :"إياكم والظن"، ثم قوله بعدها: "ولا تجسسوا"؛ لأن الإنسان إذا ظن شيئاً بامرأته ظن ظناً سيئاً، أو ظنه ربما بجاره أو ظنه بأخيه أو بولده، أو ظنته الزوجة بزوجها، أو الولد بأبيه، بدأ بعد ذلك يقع في أنواع من المعصية فجره ذلك إلى التجسس عليه، جره ذلك إلى التحسس، وهو أن يبدأ يسأل الناس: هل رأيتم فلاناً يفعل كذا؟ هل علمتم أنه يفعل كذا؟ هل ظننتم أنه يفعل كذ؟ فيتجسس بنفسه، ويتحسس الأخبار عند الآخرين.

                  ثم بعد ذلك يقع في التدابر، في أن يدبر عن إخوانه وأن يقاطعهم، فقال -صلى الله عليه وسلم- هنا: "إياكم والظن!"، ثم بيَّن عاقبة هذا الظن فقال: "ولا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكانوا عباد الله إخوانا".

                  وكان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حريصا على أن يربي أصحابه دائما على حسن الظن بالآخرين، وتربى الصحابة على ذلك فعلا، ألم تر أن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يقول للناس جميعاً، مع قدرته وخلافته وقوته وقدرته على أن يأخذ بالظن كما يشاء، لكنه كان يحذر ويقول لأصحابه: "لا تظُنَنَّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها من الخير مَحْمَلاً".

                  بمعنى: أحسِن الظن في كل الناس، رمى عليك كلمة، أو تصرف بتصرف، أو كتب كتاباً، فاحمل هذه الكتابة على أحسن المحامل، قال: "لا تظن بها شراً أو سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا".

                  وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يغرس حسن الظن في أصحابه في قوله وبفعله، ألم تر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يخرج إلى فتح مكة، وكان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، إذا أراد أن يغزو مكة بدأ يسأل أصحابه عن الطريق إلى الشام، وما هي القبائل التي تقابلهم هناك؟ ويسألهم عن الآثار التي في الطريق، ثم يقول: تجهزوا للقتال، فيظن من يظن ما دام أنه سأل عن طريق الشام معناه أنه سيغزو في الشمال.

                  وإذا به يسير بهم في الشمال شيئاً يسيراً، ثم يلوي بهم إلى الجنوب، من باب الحنكة والحكمة العسكرية، فجعل -صلى الله عليه وسلم- يسأل أصحابه عن الطرق إلى الشام وهو يريد أن يفتح مكة، لكنه يريد أن يبغتهم هناك حتى لا تسفك الدماء، ولا تزهق الأرواح، فقد يفتحها فتحاً سليما إذ لم يتجهزوا لقتاله.

                  لكن حاطب -رضي الله تعالى عنه- وهو صحابي بدري من خيار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقع في نفسه أنه يريد فتح مكة لما رأى من نقض قريش لصلح الحديبية، ومجيء أقوام يشتكون إليه -عليه الصلاة والسلام- من نقضها، ثم إذا به -عليه الصلاة والسلام- يقول بأن تجهزوا للحرب، ويُظهِر أنه يريد الشام.

                  فكتب حاطب كتاباً إلى أهل مكة يقول فيه: إني أرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهيأ لحرب، ولا أراه إلا يريدكم، ولا أظنكم تقدرون عليه أبداً؛ ثم أخذ الكتاب وأعطاه لامرأة وأمَرَها أن تذهب به لأهل مكة.

                  ولقد نُبِّئ النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فدعا -عليه الصلاة والسلام- علي بن أبي طالب والزبير والمقداد -رضي الله تعالى عنهم- وقال: "اذهبوا، ستجدون امرأة في روضة خاخ معها كتاب إلى أهل مكة فجيئوا به".

                  ومضى الصحابة الكرام، وإذا بامرأة على ظعينة، على دبتها في تلك الروضة كما أخبر -عليه الصلاة والسلام-، فأقبلوا إليها وأوقفوها وطلبوا منها أن تُخرج الكتاب فأنكرت، وِفتشوا الرحل وبين طعامها فلم يجدوا شيئاً، فقال لها علي -رضي الله عنه-: والله ما كذَبَنَا! ولا كذَبنا! والله إن معكِ كتاب، فإما تخرجين الكتاب، أو تُنْزَعَنَّ الثياب نبحث في جسدك. فلما رأت منه الحزم قالت لهم: تنحّوا عني، ثم كشفت حجابها وأخرجته من تحت شعرها، وأعطته لهم.

                  فأخذوه إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وهو جالس بين أصحابه، وهو -عليه الصلاة والسلام- لا يقرأ، فأعطاه لمن يقرأ، فلما قرأ فإذا هو مِن حاطب بن أبي بلتعةَ إلى من يراه من قريش، وإذا هو يخبرهم بغزو النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم. خيانة عسكرية بكل المقاييس!.

                  فلما قرأ على النبي -عليه الصلاة والسلام- نظر النبي إليه والصحابة ينتفضون حقدا وغيظاً: كيف تخبر أعداءنا بأسرارنا؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ما هذا يا حاطب؟" وهو -عليه الصلاة والسلام- المتَرَوِّ الذي لا يتصرف بعجلة، ويحسن الظن في كل الناس.

                  قال: يا رسول الله! لا تعجل عليّ، يا رسول الله إني كنت امرأً ملحقا بقريش، أنا لست من قريش لكن جئت وسكنت مكة بينهم، ليس لي قبيلة أنتسب إليها تمنعني، وليس لي فخد من نسب يحمي أهلي، وأنا لي أهل وأولاد في مكة أفكر فيهم دائما، فأردت يا رسول الله أن أصنع يداً عند قريش يُحسنون بها إلى أهلي، ويكفون أذاهم عني؛ وأعلمُ أن الله ناصرك.

                  قال بعض الصحابة: يا رسول الله! أنا أقوم إليه فأقتله؟! أيّ خطأ أعظم، وجريمة أكبر من أن يُفشِي سرَّنا إليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا، لقد صدَقَكم"، صدق فعلا الرجل، ما ناطح ولا أبغض إلا للدين، ولا رغب في نصرة المشركين صدقاً، لكن غلبته عاطفته الأبوية، وطبيعته البشرية؛ فأخرج شيئاً من أسرارنا في هذا الكتاب.

                  ثم التفت وقال: "ما يُدريك يا عمر! لعلَّ اللهَ اطَّلَع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم"، ثم عفا النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، إنه يُحسن الظن به، وهو قد كتب إلى أعدائه ما كتب!.

                  وكان -عليه الصلاة والسلام- يحسن الظن بكل الناس، عن عمر -رضي الله تعالى عنه- كما في البخاري أن رجلا كان اسمه عبد الله، وكان يدعى حماراً لقوته وجلده، وكان يشرب الخمر أحيانا، فيأتي به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيُجْلَد.

                  فجيء به يوما إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فأمَر بجلده، فلما جُلد وخرج قال بعض الصحابة: لعنه الله! ما أكثر ما يؤتى به! فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم وقال: "لا تلعنوه"، يُحسِن الظن به، ينظر إلى الجانب المشرق من حياته، قال: "لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله".

                  لا تلعنوه! صحيح أنه يشرب خمراً ويقع في هذه المعصية ويعاقَب عليها، ولا يتوب ويعود إلى الخطأ في كل مرة، لكن فيه خصلة ربما لا توجد في آخرين، إنه يحب الله ورسوله! يعني حباً صادقاً، إيماناً تاماً. فكان -عليه الصلاة والسلام- ينبه على أن يُتعامل مع الآخرين بحسن الظن، وهكذا كان أصحابه الكرام.

                  وعن بريدة بن الحصيب، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مر يوما في طريق، فقام رجل إليه وشتمه، شتم ابن مسعود، فقال له عبد الله بن مسعود: أمَا إذ قلت ذلك وشتمتني فإن فيَّ ثلاث خصال: ما قرأت آية في كتاب الله إلا وددت أن جميع الناس يعلمون فيها مِن العلم ما أعلمه. محبة للخير للآخَرين، يريد لكل الناس أن يأخذوا مثل العلم الذي عنده، ليس كما قال الأول لما تكلم عن نفسه: إذَا بِتُّ روْياناً فلا هَطَلَ القَطْرُ!.

                  قال: إن في ثلاث خصال: ما قرأت آية من كتاب الله إلا وددت أن الناس علموا منها مثل الذي علمت، ولا نُقل إليَّ حكْم حاكم بالعدل إلا وددت له الخير وفرحت بذلك، وإن لم أقاض يوما من الدهر. حتى ولم أتقاضَ عنده أفرح أن هناك حاكماً أو قاضياً يحكم بالعدل.

                  قال: والثالثة أني ما سمعت بالمطر نزل في بلد فخصِبَتْ إلا فرحت لأهلها بهذا الخصب، وإن لم يكن لي فيها سائمة. لست أفرح لأن دوابي سوف تشبع، لكن أفرح للناس أن تشبع دوابهم، وأن تحسن أموالهم، وهذا من حب الخير للناس.

                  معروف الكرخي -رحمه الله تعالى- مر يوما وهو راكب زورقا في قارب يقطع النهر، وإذا فيه شباب معهم آلات عزف يضربون عليها ويغنون ويرقصون، فقال بعض أصحابه له: انظر إلى هؤلاء العصاة، ادعُ عليهم. فرفع يديه وقال: اللهم كما فرَّحْتَهُمْ في الدنيا ففَرِّحْهُم في الآخرة، وتبْ عليهم يا ربي، فقالوا له: سبحان الله! نقول لك ادعُ على هؤلاء العصاة وتقول: يا رب كما فرحتهم في الدنيا فرحهم في الآخرة أيضا! فقال: هل يضركم أن يتوب الله عليهم فيعملون صالحاً ويفرحون في الآخرة؟ إنَّ حب الخير للآخرين وحسن الظن بما في قلوبهم من الخير.

                  يقول ثري الثقفي رحمه الله تعالى قال: لقد قلت يوماً كلمة الحمد لله، ولا أزال أستغفر من قولي لها. قالوا له: سبحان الله! تقول الحمد لله وتستغفر من قولها وهي ذكر؟ قال: نعم. قيل له: كيف؟ قال: وقع حريق في البلد فجاء إلي رجل وقال إن الحريق قد أكل السوق، لكن نجا حانوتك، يعني سلم دكانك ما احترق، فقلت: الحمد لله.

                  قال: ثم تفكرت بعدها وإذا أنا فرِحٌ بسلامة مالي دون أن ألتفت لسلامة مال الناس، ما دام مالي سلم فالحمد لله أنا فرحان، لكن أموال الناس تسلم أو تضيع هذا لا ألتفت إليه، يقول: فأنا أرى أن قولي لهذه الكلمة في ذلك اليوم ولم أقل لا حول ولا قوة إلا بالله على أنها مصيبة، إنا لله وإنا إليه راجعون، كوني أفرح بسلامة مالي ولا ألتفت إلى سلامة الناس، يقول: إن هذا من المعاصي التي يُتاب منها.

                  هذه القلوب -أيها الإخوة الكرام- التي امتلأت بحب الإحسان إلى الناس، امتلأت بحسن الظن بالآخرين، امتلأت بأن يحزن مع الحزين، ويكتئب مع المكتئب، ويبكي مع الباكي ويفتقر مع الفقير؛ أن يشعر أن حاجة الناس هي حاجته، أن يشعر بأن أخطاءهم التي يقعون فيها ربما هو محاسَب عليها إذا لم يصلحها، ولم يقم بها ولم يقم بالعناية بهم إذا وقعوا فيها.

                  عندما يصل الإنسان إلى مرحلة عالية من الإيمان والتقوى ومحبة الخير للناس يكون كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "يدخل أقوام الجنة، قلوبُهم كقلوب الطير بيضاء"، يعني ليس فيها غِلٌّ ولا حسَد.

                  لما نزل الموت بمحمد بن المنكدر رأوه متهلِّل الوجه، قالوا له: سبحان الله! أراك متهلل الوجه وأنت تموت! قال: لفعلي خصلتين أفرح بلقاء ربي. قيل: ما هما؟ قال: أني لم أتدخل فيما لا يعنيني، وأني ألقى الله وقلبي سليم على الناس. محسن الظن بهم، أحمل أفعالهم وأقوالهم على أحسن المحامل، لا يورث في قلبه حقدا ولا حسدا على أحد منهم.

                  أسأل الله تعالى أن يصفي قلوبنا على جميع المؤمنين، أسأل الله تعالى أن يرزقنا أخلاقا كأخلاق رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


                  الخطبة الثانية:

                  الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.

                  أما بعد، أيها الإخوة المؤمنون: ذكر الصنعاني في "سبل السلام" عن الزمخشري -رحمه الله- أنه قال: إن الظن يكون على أنواع: فمنه ظن محرَّمٌ وهو أن يسيء المرء الظن برب العالمين، فيتزوج ويقول: أظن أن الله لن يوفقني! يبدأ في تجارته ويقول: أظن أن الله سيصبيني بخسارة! يأتي الموت ويقول: أظن أن الله سيعذبني؛ والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة _رضي الله تعالى عنه-: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه". فلا يجوز أن يسيء المرء الظن بالله تعالى، بل يحسن الظن، فهو -جل وعلا- أهل الفضل والإحسان.

                  ومن الظن الحرام ظن السوء بالآخرين، وأن يظن السوء بالناس، وأن يحمل فعلهم على المحمل السيئ؛ ومنه ظن جائز، وهو أن يقول الإنسان: أظن أن فلاناً وصل من السفر، أظن أن فلاناً سوف ينجح، أظن أن فلاناً سوف يتوظف.

                  قال أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- لابنته عائشة وهو ينظر إلى بطن امرأته الحامل: يا بنيتي! أظن أنهما أخَواكِ أو أختاكِ، يعني أنها حامل بتوأم، فإما أن يأتيكِ أخ معه آخر، أو تأتيكِ أُخْتٌ معها أخرى، قال: أظن أنهما أخواكِ أو أختاكِ.

                  ومنه الظن الواجب، وهو أن يظن الإنسان الخير بنفسه فيُقدِم على الخير، أن يظن الخير بأهله، أن يظن الخير بالمسلمين، أن يحمل محاملهم دائماً وأفعالهم على الخير.

                  وأخيراً -أيها الأحبة الكرام-: إن مما يُذهب سوء الظن من قلوبنا أن تحسن إلى من يسيء إليك، وإلى من تتمنى له السوء أن تتعمد أن تحسن إليه، يقول ابن القيم -رحمه الله-: ولقد رأيت من شيخ الإسلام ابن تيمية عجباً، مات أحد أعدائه ممن كان يطعن عليه في كل موطن ويتكلم في عرضه، ويحذر الناس منه. عالم لكن بينه وبين ابن تيمية شيء في النفس وحقد وتنافس وغيرة.

                  قال: فأقبلت إليه أبشِّره. أقول "أبَشِّرَكْ تَرَى فْلان الِّي يعاديك ويتكلم في عرضك ويصرف الناس عنك أبشرك مات"، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله! تبشرني بموت رجلٍ مسلم، أأفرح لما الأرض تنقص من المسلمين؟ تبشرني بموت رجل مسلم. قال: إنه عدوك. قال: وإن كان، فإنه مسلم. قال: فقام ابن تيمية وذهب إلى أهله وعزاهم ثم قال: أنا لكم مكانه، إن احتجتم مالا أو احتجتم شفاعة أو احتجتم حاجة فأنزلوها بي، أنا لكم مكان أبيكم. هذا في تعامله حتى مع عدوه، فما بالك بتعامله مع صديقه؟.

                  ومن ذلك الدعاء أيضا لمن تسيء به الظن بصلاح حاله، وأن يعيده الله تعالى إلى الخير، حتى يعلم الله تعالى فعلا من نفسك الخير، والله تعالى قد قال في كتابه الكريم وهو يبين فضيلة ذلك، قال -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) ، ومعناه أن الذين يحسنون إلى المؤمنين والمؤمنات أنهم على خير.

                  أسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم اصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنتَ يا ذا الجلال والإكرام.



                  *******************************************


                  خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : محمد بن عبد الرحمان العريفي





                  التعديل الأخير تم بواسطة سُلاف; الساعة 12-06-2013, 11:34 AM.


                  تعليق

                  • سُلاف
                    مشرفة المواضيع الإسلامية
                    من مؤسسين الموقع
                    • Mar 2009
                    • 10535





                    المـاء في القرآن الكريم





                    الحمد لله رب العالمين أنزل من السماء ماء بقدر، نقيا من الشوائب والكدر،أحمده تعالى وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، ملاذنا عند الشدائد والخطر؛ وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفوته من البشر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ..

                    أما بعد : فاتقوا الله عباد الله ..اتقوا الله تنجوا في الدنيا والآخرة (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا).

                    إخوة الإسلام: ثمة مخلوق عجيب من خلق الله، خلقه الله قبل خلق السموات والأرض، لا لون له ولا طعم ولا رائحة، ولكنه أصل الحياة، وسر بقائها ،ذكره الله في كتابه أكثر من ستين مرة ، ووصفه بأكثر من عشرين وصفا، ذكره الله في مواضع دليلا على وحدانيته تبارك وتعالى، وفي أخرى على البعث بعد الموت، وامتن الله به على عباده به في مواضع ، وأشار في مواضع إلى أنه ملاذُ أوليائه الآمن ، وفي أخرى أخبر أنه عذاب أعدائه القاصم .. ذلكم هو الماء عباد الله أعز مفقود ، وأهون موجود،قوام البدن ومادة الطهارة الأصيل.. ذلكم هو الماء الذي لا غني لحي عنه ( وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) أشار الله إلى تقدم خلقه في قوله (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا). وجعله الله أساس الخلق ( والله خلق كل دابة من ماء) وقال الله تعالى عن الإنسان:(خلق من ماء دافق)، وقال عن النبات(ونزلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنات وحبَ الحصيد)، وقال سبحانه :( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون ).

                    عباد الله: الماء نعمة من أجلّ نعم الله تعالى التي امتن بها على عباده ، قال سبحانه:(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ)،وقال جل في علاه(فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ). الماء أثمن موجود على الأرض فهو أثمن من النفط وما شاكله إذ لا حياة بدونه،وفي مراحله إعجازٌ وبيان لعظيم قدرة خالقه، فهو إن خف كان سحاباً، وإن ثقُل كان غيثاً ثجاجاً، وإن سَخُن كان بخاراً، وإن بَرَد كان ندى وثلجاً وبرَدَاً.تجري به الجداول والأنهار، وتتفجر منه العيون والآبار، وتختزنه تجاويف الأرض والبحار:قال سبحانه (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) وقال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ) فسبحان من قدره بقدر لو زاد عله لهلك البشر (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ).

                    عباد الله: لقد جعل الله الماء دليلا على وحدانيته في قوله( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)..ونوّع به الثمرات وهو واحد لا يختلف فقال (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).وجعله الله دليلا على البعث فقال (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

                    عباد الله: الماء جند من جنود الله ينصر به صالحي عباده ..فلقد جعله الله ملاذا آمنا لموسى وهو طفل رضيع، قال جل ثناؤه:( إذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي).

                    وجعله سكينة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وطهورا وطاردا للشيطان ورابطا على القلوب، قال سبحانه(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)، وسلط الله هذا الجند على أعدائه ، فقد أغرق به قوم نوح المكذبين قال سبحانه (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ) وأهلك به فرعون وقومه المستكبرين، قال سبحانه (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) وقال (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم). وجعله سيلا عرما على قوم سبأ لما أعرضوا قال جل شأنه( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ). وما كان من ماء نازل من السماء يهدم السدود ويلتهم ما يمر به من ممتلكات ، ويغرقُ ويفرّق فهو نذير عقوبة من رب العالمين يستوجب توبة صادقة وأوبة عاجلة ، ومراجعةً دقيقة للأعمال والإخلاص والأمانة والإتقان .. فإن فساد الأحوال والذمم سبب رئيس من أسباب العقوبات الربانية على اختلاف صنوفها . فيجب النظر إلى ذلك بعين الاعتبار والادكار حتى ننتفع بما وهبنا الله من بصائر وعقول، (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) .. أسأل الله أن يلطف بنا وأن لا يهلكنا بما فعل السفهاء منا إنه سميع مجيب .. أقول ما تسمعون ..

                    الثانية :

                    الحمد لله رب العالمين.

                    إخوة الإسلام: لقد جعل الله الماء وسيلة للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة؛ ففي الجنة يقول تعالى: (مَثَلُ الجَنَّةِ الَتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ... ) ، وفي المقابل في النار ( ... كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) . وفي الدنيا عن الثواب يقول تعالى: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً) و سبق بيان العقاب به على قوم نوح وفرعون..

                    والماء هو عماد اقتصاد الدول، ومصدر رخائها بإذن الله، بتوافره تتقدم وتزدهر، وبنضوبه وغوره وشح موارده تحل الكوارث والنكبات:قال جل وعلا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) وقال سبحانه (وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) .

                    عباد الله : لقد جعل الله الماء مضرب مثل لنا في كتابه، فينبغي لنا أن نعتبر في بعض أحواله ، ومن ذلك قوله جل وعلا( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا). قال القرطبي رحمه الله: (وقالت الحكماء: إنما شبّه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على (حال) واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة، كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب، كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر). وضرب الله بالماء مثلا في زخرف الباطل وبهرجه وسرعة زوال في مقابل ثبات الحق وبقائه وانتصاره فقال جل في علاه(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ).

                    عباد الله:هذا هو الماء الذي جعله الله قوام الحياة ، وهذه بعض الأوجه التي ورد فيها في كتاب الله تعالى، ولقد حبانا الله مطرا خلال الأسبوع المنصرم ، وأنزل علينا من السماء ماء طهورا فرحت به القلوب وسعدت به النفوس، ولكن الله أرانا من خلاله قوَّته وكشف لنا ضعفنا ، وتقصيرنا ، وجهلنا بحقيقة هذا الماء الجاري بأمر ربه جل وعلا.. لقد أبان الله لنا أن الفساد وتضييع الأمانة لا بد وأن ينكشف زيفه عاجلا أو آجلا ، وأبان لنا أن في الناس جهلَةً لا يأبهون بتحذير ولا يلتفتون إلى صيحة نذير من قبل الدفاع المدني وغيره؛ فيخاطرون بأنفسهم في الأودية والشعاب ليَفجعوا أهليهم بغرق أو فقدٍ أو نحو ذلك،ومن الجهل البين الذي كشفته الأحوال السابقة البناء أو الزراعة في بطون الأودية ومجاري السيول .. فإن الماء المندفع لا يقف في وجهه شيء بأمر الله.

                    عباد الله :لقد أبان لنا مطر هذا الأسبوع أن الله على كل شيء قدير وأن أمره غالب ، ولو أراد عذاب عباده أو إنذارهم لسلط عليهم أبسط جنده في نظرهم وأهونهم عليهم فسلب راحتهم وقض مضاجعهم، واستنفر كل وسائل البحث والإنقاذ لديهم.. فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه المرجع والمصير.وسبحان من يبتلي عباده ليعودوا ويرجعوا إليه.

                    عباد الله .. كانت هذه وقفات تأمل لنعمة الماء، ووقفات تدبر لما جاء حوله في كتاب الله تعالى.. وثمة أحكام شرعية كثيرة تتعلق بالماء أرجئ الكلام عليها لمناسبة أخرى أسأل الله أن ييسر ذلك ويعين عليه إن سميع مجيب.. هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله ...



                    *****************************************

                    خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : مقبل بن حمد المقبل







                    تعليق

                    • سُلاف
                      مشرفة المواضيع الإسلامية
                      من مؤسسين الموقع
                      • Mar 2009
                      • 10535




                      صنـائـع المعـــروف








                      الخطبة الأولى:


                      إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
                      ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْْ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ . ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾.﴿يَا أَيُّهَا الَّذِين ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ . أما بعد:-
                      فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

                      أيها الناس:

                      اتقوا الله تعالى, وابذلوا المعروف وكونوا من أهله, واعلموا أن أحب العباد إلى الله أنفعهم.
                      روى الطبراني عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء, وصدقة السر تطفئ غضب الرب, وصلة الرحم تزيد في العمر ).
                      والمعروف:
                      هو الإحسان إلى عباد الله بعمل المعروف, وذلك بالدعوة والنصح والتوجيه, وإرشاد الجاهل, والبر, والصلة, والصدقة، وإغاثة الملهوف, وقضاء حوائج الناس, وسداد الديون, والوضع عن المعسرين, وتنفيس الكربات, والسعاية على الأرامل, وكفالة الأيتام, وإصلاح ذات البين, حتى المسؤول, أوالموظف الذي يؤدي عمله بأمانة وإخلاص, ويحرص على حسن المعاملة مع المراجعين، والتلطف معهم, وإنجاز معاملاتهم, وعدم تعطيلهم, أو التغيب عن مصالحهم, يعتبر ذلك من صنائع المعروف.

                      وصدقة السر:هي الصدقة التي تكون في الخفاء.
                      والصدقة عموما سواء كانت سرا أو علانية شأنها عظيم, وتدل على كرم النفس, وحب الخير للغير, وعدم التعلق بالدنيا والدينار والدرهم. ولكن فضل الصدقة يتفاوت, وأعظمه إذا بذلها صاحبها سرا فيالخفاء حين لا يراه أحد إلا الله. لأنها تحتاج إلى عمل وبذل,
                      وتدل على الإخلاص وكمال الأخوة الإيمانية, لأن صاحبها يتفقد إخوانه, ويتحرى المستحق, ولأنها تغني الفقير عن التعرض للناس.
                      فإن المساكين يتفاوتون,
                      فمنهم من يتعرض للناس ويسأل, وقدأمر الله تعالى بإعطائه, وعدم رده وإهانته.
                      ومن المساكين من هو متعفف ولا يسأل الناس شيئا, ولا يُفْطَنُ له.
                      وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفقد هذاالنوع من المساكين,
                      فعن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان, والتمرةوالتمرتان, ولكن المسكين الذي لا يجد غِنَى يُغْنِيه, ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدَّق عليه, ولا يقوم فيسأل الناس ) رواه البخاري ومسلم.
                      وهذا النوع من المساكين, هوالمذكور في قوله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
                      فالسائل هو: الذي يتعرض للناس ويسألهم.
                      والمحروم هو: الذي لا يتعرض للناس, ولايسألهم, كما سمعتم في الحديث.

                      وكثير من العامة يعتقدون بأن المحروم:
                      هو الغني الذييحرم نفسه وأهله من الإنتفاع بماله, ولا يُرَى أثر نعمة الله عليه.
                      والصحيح أن هذاالغني الذي يحرم نفسه لا يدخل في المعنى. بل هو البخيل الشحيح, دني النفس الذي قد يحرم الفلاح في الآخرة, كما قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّنَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. لأنه لم يُظْهِر أثر نعمة الله عليهوعلى زوجته وأولاده, لِبُخْلِه ودناءة نفسه. ومثل هذا من باب أولى أن لا يتصدق أوينفق في أبواب الخير, ويكفي أن قبض اليد من صفات المنافقين. والكرم من صفات المؤمنين.
                      اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا, واغفر لنا ولوالديناولجميع المسلمين ،بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.


                      الخطبة الثانية:

                      الحمد لله رب العالمين ؛ والعاقبة للمتقين ؛ ولا عدوان إلا على الظالمين ؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد:-
                      عباد الله:
                      وأما صلة الرحم, فإنها تزيد في العمر, كما سمعتم في الحديث. فالصلة سببلطول العمر, وبركته. وأول من يدخل في ذلك: الوالدان, ثم الأقرب فالأقرب. والصلة تكون بالزيارة, والإحسان, وحسن المعاملة, وبذل المعروف, بالنصيحة وتفقد الأحوال .
                      وهذه الصلة واجبة على المسلم نحو أقاربه, سواء كانوا واصلين له, أو قاطعين.
                      فإن من الناس من لا يصل إلا من وصله, وبعض الناس لا يصل من يكون بينه وبينهم شحناء في النفوس, أو اختلاف في وجهات النظر.
                      روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضيالله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس الواصل بالمكافئ, إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ).
                      وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأحسنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن كنت كما قلتَ فكأنَّما تسفّهم الملّ - وهو الرماد الحار -، ولا يزال معك منالله عليهم ظهير ما دمت على ذلك ).

                      ويكفي في فضل صلة الرحم ما أخبر به النبي صلىالله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه, أن الله تعالى قال: ( من وصلك وصلته, ومن قطعك قطعته ) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
                      وكما أن صلة الرحم سبب لطول العمرة وبركته, فهي أيضاً سبب لسعة الرزق وبركته, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنْسَأَ له في أثره فليصل رحمه ) رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
                      ومن لوازم ذلك:
                      أن قطيعة الرحم سبب لضيقالرزق, ومحق بركة الرزق والعمر.
                      وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن قطيعة الرحم سبب للعقوبة في الدنيا وحلول اللعنة, والعذاب في الآخرة قال تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) . رواه البخاري ومسلم من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه .

                      اللهم اهدنا لأحسنا لأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا يا رب العالمين .





                      ***************************************

                      خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : أحمد العتيق






                      تعليق

                      • سُلاف
                        مشرفة المواضيع الإسلامية
                        من مؤسسين الموقع
                        • Mar 2009
                        • 10535







                        الشمائــــل المحمديــــة





                        الخطبة الأولى

                        أما بعد: فيا أيها المسلمون، حينما يتعاظم رُكام الفتن في الأمة وتخيّم على سمائها الصافية غيومُ الغمة فيلتبس الحق بالباطل، وتخفى معالم الحق على كثير من أبناء الملة، ويختلط الهوى بالهدى، فإن تقوى الله سبحانه هي التي تنير طريق الهداية، ويبدّد نورها ظلماتِ الجهل والغواية. من وهبة الله التقوى فقد وهبه نوراً يمشي به على درب النجاة في سلامةٍ من المؤثرات العقدية والمنهجية، وفي بُعدٍ عن اللوثات الفكرية والسلوكية. ألا ما أحوج الأمة اليوم إلى أن تُعمر قلوبُ أبنائها بالتقوى واليقين؛ ليتحقق لها بإذن الله النصر والتمكين.

                        معاشر المسلمين، قضيتُنا الكبرى التي يجب أن لا تُنسى في جديد التحديات وفي زخَم الحوادث والمؤامرات، حيث إنها الركيزة العظمى التي تُبنى عليها الأمجاد والحضارات، بل وتتحقق بها التطلعات والانتصارات، وتخرج بها الأمة من دوامة الصراعات، هي أننا أمة عقيدةٍ إيمانية صافية، ورسالةٍ عالمية سامية، أمةُ توحيد خالص لله، واتباع مطلق للحبيب رسول الله .
                        هذه القضية الكبرى هي حديثُ المناسبة وكلِّ مناسبة، والتذكير بها موضوع الساعة وكلِّ ساعةٍ إلى قيام الساعة. وإن خير ما عُني به المسلمون وتحدَّث عنه المصلحون العقيدةُ الإيمانية والسنة المحمدية والسيرة النبوية، فهي للأجيال خيرُ مربٍّ ومؤدِّب، وللأمة أفضل معلم ومهذِّب، وليس هناك أمتعُ للمرء من التحدث عمن يُحبّ، فكيف والمحبوب هو حبيب رب العالمين وسيد الأولين والآخرين، فهو مِنة الله على البشرية، ورحمته على الإنسانية، ونعمته على الأمة الإسلامية. فبالله ثم بمحمد بن عبد الله قامت شِرعةٌ وشُيِّدت دولةٌ وصُنِعَت حضارةٌ وأسُّست ملةٌ من ملل الهدى غراءُ.
                        بُنيت على التوحيد وهي حقيقةٌ نادى بها الحكماء والعقلاء
                        وليس هناك أحدٌ من البشر نال من الحب والتقدير ما ناله المصطفى ، فباسمه تلهج ملايين الألسنة، ولذكره تهتزّ قلوب الملايين، ولكن العبرة أن يتحول هذا الحب إلى محض اتباع دقيق لكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام، كما قال الحق تبارك وتعالى مبيناً معيار المحبة الصادقة: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
                        إخوة الإيمان، ولم تكن حاجةُ الأمة في عصرٍ ما إلى الاقتباس من مشكاة النبوة والسنة المباركة ومعرفة السيرة العطرة معرفة اهتداء واقتداء أشدَّ إليها من هذا العصر الذي تقاذفت فيه الأمةَ أمواجُ المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلب فيه الأهواء، واستحكمت الزعوم والآراء، وواجهت فيه الأمة ألواناً من التصدي السافر والتحدي الماكر والتآمر الجائر من قبل أعداء الإسلام الذين رموه عن قوس واحدة، والذي تولى كبره منهم مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ من اليهود المعتدين والصهاينة الغاشمين، ويوالي مسيرتهم دعاةُ التثليث وعبدة الصليب، ويشد أزرهم المفتونون بهم المتأثرون بعفن أفكارهم وسموم ثقافاتهم، من أهل العلمنة ودعاة التغريب.
                        ويزداد الأسى حين يجهل كثير من أهل الإسلام حقائق دينهم وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيص ولا تحقيق، أو يجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق، وقد صح عن المعصوم أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) خرجه مسلم في صحيحه.
                        أيها الإخوة في الله، يا أحباب رسول الله ، هذه وقفاتٌ ومقتطفات مع جانب من أهم جوانب السنة العطرة والسيرة المباركة، ذلكم هو جانب الشمائل النبوية والسجايا المحمدية والآداب المصطفوية، فهي معينٌ ثرٌّ، وينبوع صافٍ متدفق، يرتوي من تميزه كلُّ من أراد السلامة من لوثات الوثنية والنجاة من أكدار الجاهلية، بل هي المنظومة المتألفة والكوكبة المتلألئة والشمس الساطعة والسنا المشرق والمشعل الوضاء الذي يبدّد ركام الظُّلْم والظُّلَم، ولئن فات كثيرين رؤيتُه بأبصارهم، فإن في تأمُّلِ شمائله لعزاءً وسلوانا، فالمطبقون لشمائله إن لم يصحَبوا نفسَه أنفاسَه صحِبوا.
                        إن فاتكم أن تروه بالعيون فمـا يفـوتكم وصفُه هاذي شمائلـه
                        مكمَّل الذات في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ وفي صفاتٍ فلا تحصى فضائله
                        إخوة العقيدة، إننا بحاجة إلى تجديد المسار على ضوء السنة المطهرة، وتصحيح المواقف على ضوء السيرة العطرة، والوقوف طويلا للمحاسبة والمراجعة. نريد من مطالعة السنة والسيرة ما يزيد الإيمان، ويزكي السريرة، ويعلو بالأخلاق ويقوِّم المسيرة.
                        يخطئ كثيرون حينما ينظرون إلى المصطفى وسيرته كما ينظر الآخرون إلى عظمائهم في نواحٍ قاصرة، محدودة بعلمٍ أو عبقرية أو حِنكة. فرسولنا قد جمع نواحي العظمة الإنسانية كلها في ذاته وشمائله وجميع أحواله، لكنه مع ذلك ليس رباً فيقصَد، ولا إلهًا فيُعبَد، وإنما هو نبي يُطاع ورسول يُتَّبع، خرَّج البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا: عبد الله ورسوله)).
                        إن من المؤسف حقاً أن بعض أهل الإسلام لم يقدروا رسولهم حقَّ قدره حتى وهم يتوجهون إليه بالحب والتعظيم، ذلك أنه حبٌّ سلبي لا صدى له في واقع الحياة، ولا أثر له في السلوك والامتثال.
                        أمة الإسلام، تأملوا هديه وشمائله ـ بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام ـ في جوانب الدين والدنيا بأسرها.
                        ففي مجال توحيده لربه صدَع بالتوحيد ودعا إليه ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة، كيف لا وهو المنزَّل عليه قوله سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ وإن أول واجب على محبيه أن يُعنَوا بأمر الدعوة إلى توحيد الله التي قامت عليها رسالته عليه الصلاة والسلام، ومحاذرة كل ما يخدش صحيح المعتقد وصفو المتابعة، من ضروب الشركيات والبدع والمحدثات.
                        وفي مجال عبوديته لربه قام من الليل حتى تفطرت قدماه، فيقال له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟!)) خرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
                        يا أمة محمد ، وفي مجال الأخلاق تجده مثال الكمال في رقة القلب، وسماحة اليد، وكفِّ الأذى، وبذل الندى، وعفة النفس، واستقامة السيرة. كان عليه الصلاة والسلام دائم البشر، سهل الطبع، ليّن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح.
                        زانتْه في الخلق العظيم شمائلٌ يُغرى بهن ويولَع الكرماء
                        وأعظم من ذلك وأبلغ ثناءُ ربه عليه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم ، فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ يقول أنس رضي الله عنه: ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألينَ من كف رسول الله ، ولا شممت رائحة قط أحسنَ من رائحة رسول الله ، ولقد خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أفٍ قط، ولا قال لشيء فعلتُه: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا.
                        تلك لعمرو الحق عراقةُ الخلال وسمو الخصال، وكريم الشمائل وعظيم الفضائل، فسبحان من رفع قدره، وشرح صدره، وأعلى في العالمين ذكره.
                        وشقَّ له من اسمه ليجلَّه فذو العرش محمود وهذا محمد
                        فهل من يتغنون اليوم بسيرته يقتفون أثره في هديه وشمائله؟!
                        وهناك صفحة أخرى يا رعاكم الله، في معاملاته لأصحابه وأهل بيته وزوجاته، يقول : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)) خرجه أحمد وأهل السنن.
                        وهكذا في سياسة الدولة الإسلامية وفي عبادته لربه، وفي نفقته وبذله، وفي قوته وجهاده، وحرصه على أداء رسالة الله وتبليغ دعوة ربه تبارك وتعالى.
                        وهاكم ـ رعاكم مولاكم ـ أنموذجاً على حكمته في الدعوة، ورفقه بالمدعوين ورحمته بالناس، مسلمين وغير مسلمين، وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ ومراعاته لحقوق الإنسان، بل ورفقه حتى بالحيوان، في وقت تتغنى فيه حضارة اليوم بدوس كرامة الإنسان ورعاية أحطِّ حيوان، فالله المستعان.
                        ويتجلى هذا الأنموذج الرائع في قصة الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد، حين نهره الصحابة رضي الله عنهم، فقال : ((دعوه، لا تزرموه))، أي: لا تنهروه، فقال لهم : ((إنما بُعثتم مبشرين، ولم تبعثوا معسرين)) وأرشده برفق وحكمه، وكانت النتيجة أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. متفق عليه].
                        وفي قصة ثمامة بن أثال حينما أُسر ورُبط بسارية المسجد وهو مشرك وسيد قومه، ورسول الله يمر به ويقول: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فيقول: عندي خير يا محمد، إن تقتلْ تقتلْ ذا دم، وإن تنعمْ تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فيقول بعد أن أكرمه ورفق به وأحسن معاملته: ((أطلقوا ثمامة))، فانطلق ثمامة فاغتسل ثم دخل المسجد، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، والله يا محمد، ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك اليوم أحبَّ الوجوه كلها إليَّ، وما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك اليوم أحبَّ الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إليَّ. خرجه الشيخان].
                        الله أكبر، تلك آثار الدعوة بالرفق والرحمة والحسنى، والبعد عن مسالك العنف والغلظة والفظاظة، وهو درس بليغ للدعاة إلى الله إلى قيام الساعة.
                        بنيتَ لهم من الأخلاق ركناً فخانوا الركن فانهدم اضطرابا
                        وكـان جَنابهم فيها مُهابـا ولَلأخـلاق أجـدرُ أن تهابـا
                        ولما قيل له عليه الصلاة والسلام: ألا تدعو على المشركين؟! قال: ((إني لم أُبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة للعالمين)) خرجه مسلم، وقال لهم: ((ما تظنوني أني فاعلٌ بكم؟)) قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم، قال: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
                        ألا فلتعلم الإنسانية قاطبة والبشرية جمعاء هذه الصفحات الناصعة من رحمة الإسلام ورسول الإسلام والسلام عليه الصلاة والسلام، الذي يجدون ذكر شمائله في توراة موسى وفي بشارة عيسى، وليعلم من يقفُ وراء الحملات المغرضة ضد الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام ما يتمتع به الإسلام من مكارم وفضائل، ومحاسن وشمائل، ومدى البون الشاسع بين عالميته السامية وعولمتهم المأفونة في إهدارٍ للقيم الإنسانية وإزراءٍ بالمثل الأخلاقية.
                        وهل تدرك الأمة الإسلامية اليوم الطريقةَ المثلى للدعوة إلى دينها وإحياء سنة رسولها إحياءً عملياً حقيقياً، لا صوريا وشكلياً؟!
                        إن حقا على أهل الإسلام وهم المؤتَمنون على ميراث النبوة أن تصقلَهم الوقائع وتربِّيهم التجارب، إذ لا تزال الفتن والخطوب مدلهمةً على هذه الأمة. وإذا كانت الأمة في هذه الظروف الحرجة التي تمرّ بها تتحدث عن شمائل المصطفى ، فكيف يطيب الحديث وكيف يحلو الكلام ومقدسات المسلمين يعيث فيها أعداء الإسلام من اليهود المعتدين، وها هم يصعِّدون عدوانهم وإرهابهم، يزيدون في إذكار نار الفتنة، في صلفٍ ورعونة على سمع العالم وبصره، تحدياً لمشاعر المسلمين في مسرى سيد الثقلين، وثالث المسجدين الشريفين، أقر الله أعين المؤمنين بفك أسره من اليهود الغاصبين، وجعلَه شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين. كيف يجمُل الحديث وأعداء المسلمين من الملحدين يصرُّون على صَلفهم وعدوانهم ضدَّ إخواننا وحرماتنا في الشيشان المجاهدة؟! كيف يحلو الكلام والهندوس الوثنيون يُمعنون في حقدهم السافر ضد إخواننا ومشاعرنا في كشمير المسلمة؟! مما ينذر بخطر داهم وحرب ضروس في القارة الهندية برمتها، مما يتطلب ضبطَ النفس، والإصغاء إلى لغة الحوار وصوت العقل والمنطق، ورد الحقوق إلى أصحابها. كيف وكيف، وكثير من قضايانا الإسلامية معلقة وأوضاع أمتنا متردية إلا من رحم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
                        وإن الأمة اليوم بأمس الحاجة في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخها إلى التمسك الصحيح بدينها وسنة رسولها ، في محبة وتآلف واعتصام، وفي سماحة ويسر ووئام، وبذلك تتحقق وحدة الصف وجمع الشمل وتوحيد الكلمة على منهج الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رحمهم الله، فلن يصلح أمرُ آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وبذلك تنكشف الغمة عن هذه الأمة، وما ذلك على الله بعزيز.
                        أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً
                        بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.




                        ****************************************

                        خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : عبد الرحمان السديس امام الحرمين












                        تعليق

                        • سُلاف
                          مشرفة المواضيع الإسلامية
                          من مؤسسين الموقع
                          • Mar 2009
                          • 10535




                          نماذج من التربية النبوية




                          الحَمْدُ للهِ الذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالحَقِّ رَسُولاً، وأَرْسَلَهُ إِلَى الفَضِيلَةِ دَاعِياً ودَلِيلاً، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، إِمَامُ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، وقُدْوَةُ المُرشِدِينَ والمُرَبِّينَ، -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الذِينَ أَتْقَنُوا عَلَى يَدَيْهِ فَنَّ التَّرْبِيَةِ، وعَرَفُوا بِالقُرآنِ مَعنَى التَّزكِيَةِ، صَلاَةً وَسَلاَماً دَائمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.



                          أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبادَ اللهِ :
                          إِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ نَبِيِّهِ ومُصطَفَاهُ، فَاتَّقُوا اللهَ -رَحِمَنِي اللهُ وإِيَّاكُم-، فَفِي التَّقوَى صَلاَحُ دِينِكِمْ ودُنْيَاكُم، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً))، وتَفَيَّؤُوا -مَعَاشِرَ المُسلِمينَ، وجُمُوعَ الآبَاءِ والمُربِّينَ- ظِلاَلَ المَدْرَسِةِ النَّبَوِيَّةِ، -عَلَى صَاحِبِها أَفْضَلُ صَلاَةٍ وأَزكَى تَحِيَّةٍ- فَهِيَ مَدْرَسةُ الأَخْلاَقِ والفَضَائِلِ، وتَربِيَةُ المَحامِدِ والشَّمَائلِ، حَيْثُ المَنْهَجُ الرَّائعُ البَدِيعُ، وأُسلُوبُ التَّرقِيَةِ الرَّاقِي الرَّفِيعُ، فَقَدْ كَانَ -صلى الله عليه وسلم- خَيْرَ مُرَبٍّ وأَفْضَلَ مُرْشِدٍ، أَتْقَنَ فِي تَربِيَتِهِ العَمَلَ والخِطَابَ، وفَتَحَ لِطُلاَّبِ القِمَمِ كُلَّ مَسْلَكٍ وبَابٍ، والمُتَتَبِّعُ لِمَنْهَجِهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي التَّربِيَةِ يَجِدُ أَنَّهُ اهتَمَّ بِبِنَاءِ الأَجْسَامِ وتَربِيَتِها، وبِصَقْلِ الأَذْهَانِ وتَنْمِيَتِها، فَقَدِ اهتَمَّ اهتِماماً عَالِياً بِالتَّربِيَةِ الجَسَدِيَّةِ، وأَرشَدَ إِرشَاداً وَاضِحاً إِلَى العِنَايَةِ بِاللِّيَاقَةِ البَدَنِيَّةِ، فَوَجَّهَ أَتْبَاعَهُ إِلَى الغِذَاءِ الصِّحِّيِّ المُفِيدِ، وَفْقَ مَنْهَجٍ وَسَطٍ سَدِيدٍ، فَنَهاهُمْ عَنِ الأَطْعِمَةِ الضَّارَّةِ، وأَمَرَهُمْ بِالاعتِدَالِ فِي تَنَاولِ الأَغْذِيَةِ النَّافِعَةِ السَّارَّةِ، قَالَ تَعالَى فِي وَصفِهِ: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))، وَعَنْهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: ((مَا مَلأَ ابنُ آدَمَ وِعَاءً شَرَّاً مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ فَاعِلاً لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وثُلُثٌ لِنَفَسِهِ))، وهُوَ مِصْدَاقٌ لِقَولِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: ((يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ))، بَلْ إِنَّ المُتَتَبِّعَ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- يَجِدُ إِرشَادَاتٍ دَقِيقَةً فِي عَمَلِيَّةِ التَّغْذِيَةِ، بَهَرَتِ العِلْمَ الحَدِيثَ بِنَتَائِجِها، وأَوصَى بِهَا الأَطِبَّاءُ لِعظَمِ فَوائِدِها.
                          أيُّهَا المُسلِمُونَ :
                          إِنَّ قُوَّةَ الجَسَدِ هَدَفٌ مِنْ أَهدَافِ التَّربِيَةِ فِي الإِسلاَمِ، لِذَا جَاءَتْ نُصُوصُهُ حَاثَّةً عَلَى كُلِّ مَا يُسَاعِدُ عَلَى القُوَّةِ الجَسَدِيَّةِ، ويَصقُلُ الطَّاقَةَ البَدَنِيَّةَ، فَقَدْ جَعَلَها القُرآنُ رَدِيفَةً فِي المَدْحِ لِلْمَلَكَةِ العِلْمِيَّةِ، قَالَ تَعالَى فِي شَأْنِ طَالُوتَ الذِي اختَارَهُ مَلِكاً عَلَى قَوْمِهِ: ((قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ))(4)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((المُؤمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعالَى مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلٍّ خَيْرٌ، اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ واستَعِنْ باِللهِ ولاَ تَعْجِزْ))، وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صلى الله عليه وسلم- حَثُّ أُمَّتِهِ عَلَى النَّافِعِ مِنَ الأَلْعَابِ، فَالرِّيَاضَةُ وَسِيلَةٌ لِتَحقِيقِ الصِّحَّةِ والقُوَّةِ البَدَنِيَّةِ لأَفْرَادِ الأُمَّةِ، وَمَرْغُوبَةٌ بِحَقٍّ عِنْدَمَا تُؤدِّي إِلَى هَذِهِ النَّتَائِجِ، وَلَقَدْ حَرَصَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى خَلْقِ رُوحِ المُنَافَسَةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي الرِّيَاضَةِ النَّافِعَةِ، وفِي فَتْحِ أَبْوابِ المَعَارِفِ الوَاسِعَةِ، وهُوَ مَا يُسَمَّى اليَوْمَ بِنَشَاطِ المُسَابَقَاتِ، فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ -أَيْ: يَستَبِقُونَ في الرَّمْيِ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((اُرْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ؛ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِياً))، وَمِنْ لَطَائفِ هَدْيِهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي هَذَا المَجَالِ اهتِمَامُهُ بِهِ فِي نِطَاقِ أُسْرَتِهِ، فَعَنْ عَائشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أَنَّها كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَـقْتُهُ عَلَى رِجْلِي، فَلَمَّا حَمَلْتُ الَّلحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: ((هَذِهِ بِتِلْكَ))، وهُنَا يَظْهَرُ بُعْدٌ آخَرُ لِلرِّيَاضَةِ فِي الإِسلاَمِ، فَهِيَ مَعَ مَا فِيها مِنْ بِنَاءٍ وقُوَّةٍ لِلأَجْسَامِ، فَإِنَّها بِمَا يَتَخلَّلُها مِنَ المُلاَطَفَةِ تَبْعَثُ عَلَى الرَّاحَةِ والاستِجْمَامِ، وتَحقِيقِ التَّوازُنِ بَيْنَ مُتَطَلَّبَاتِ الإِنْسَانِ الرُّوحِيَّةِ والعَقلِيَّةِ والبَدَنِيَّةِ، كَمَا أَنَّها تُسْهِمُ فِي تَنْمِيَةِ الذَّوْقِ والمَوْهِبَةِ، وتُهَيِّئُ لِلإِبْدَاعِ والابْتِكَارِ، مِنْ هُنَا تَظْهَرُ أَهَمِّيَّةُ تِلْكَ المَوَاقِفِ العِلْمِيَّةِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، التِي تُسْهِمُ فِي تَفْعِيلِ الطَّاقَاتِ الذِّهنِيَّةِ، وخَلْقِ رُوحِ البَحْثِ فِي صُورَةٍ تَنَافُسِيَّةٍ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُها، وهِيَ مِثْلُ المُسلِمِ؛ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَادِيَةِ، وَوقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّها النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَاستَحْيَيْتُ، فَقَالوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرنَا بِها، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: هِيَ النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي، فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَها أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذا))، وفِي رِوَايَةٍ أُخْرى: ((فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشْرَةٍ، أَنَا أَحْدَثُهُمْ -أَي أَصْغَرُهُمْ-))، إِنَّ الطَّالِبَ وهُوَ فِي مُقْتَبَلِ العِلْمِ قَدْ يَحُولُ الخَوْفُ والتَّردُّدُ والحَيَاءُ بَينَهُ وبَيْنَ السُّؤَالِ، لِذَا كَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صلى الله عليه وسلم- تَشْجِيعُ أَصْحَابِهِ عَلَى طَرْحِ المُفِيدِ مِنَ الاستِفْسَارَاتِ، والثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِأَطْيَبِ الكَلِمَاتِ وأَرَقِّ العِبَارَاتِ، تَشْجِيعاً لَهُم عَلَى طَلَبِ العِلْمِ، وحَثّاً عَلَى الاستِفَادَةِ والفَهْمِ، ولاَ شَكَّ أَنَّ لِذَلِكَ التَّرغِيبِ دَوْراً كَبِيراً فِي إِيجَادِ الحَمَاسَةِ لَدَى طَالِبِ العِلْمِ لِلتَّعلُّمِ، والاستِزَادَةِ مِنْ يَنَابِيعِهِ، بَل التَّفَوُّقِ عَلَى الأَقْرَانِ، وَبَذْلِ المَزِيدِ مِنَ الحِرْصِ والاجتِهادِ.
                          أيُّها المُؤمِنُونَ :
                          إِذَا كَانَتْ تِلْكَ بَعْضَ الأُسُسِ الرَّائِعَةِ فِي الهَدْيِ التَّربَوِيِّ النَّبَوِيِّ، فَإِنَّنَا نَجِدُ فِيهِ تَنَوُّعَ الأُسلُوبِ والطَّرِيقَةِ، التِي يَتِمُّ بِها إِيصَالُ المَعلُومَةِ وإِثْبَاتُ الحَقِيقَةِ، مَعَ اختِيَارٍ لِكُلِّ مَوقِفٍ مَا يُنَاسِبُهُ بِصُورَةٍ دَقِيقَةٍ، فَمِنَ التَّربِيَةِ بِالقِصَّةِ -كَمَا فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الأُخْدُودِ وقِصَّةِ الثَّلاَثَةِ الذِينِ آوَاهُمُ المَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَعوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِم، وغَيْرِها- إِلَى التَّربِيَةِ بِالمِثَالِ لِيَسْهُلَ عَلَى طَالِبِ المَعْرِفَةِ فَهْمُها، فَعَنْهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ:((مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ والوَاقِعِ فِيَها كَمَثَلِ قَوْمٍ استَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ؛ فَكَانَ بَعْضُهُمْ أَسفَلَها وكَانَ بَعْضُهُمْ أَعلاَهَا، وكَانَ الذِينَ فِي أَسفَلِها إِذَا استَقوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوقَهُمْ فَقَالُوا: لَو أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرقاً وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوقَنَا، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أََيْدِيهِمْ نَجوا ونَجوا جَمِيعاً، وإِنْ تَركُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً))، مَعَ مُرَاعَاتِهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلْفُروقِ الفَرْدِيَّةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وحِرْصِهِ عَلَى إِشْبَاعِ نَهَمِ المَوهُوبِينَ مِنْهُم، وفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ مَنْهَجَهُ العِلْمِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ عَلَى تَعلِيمِ مَا تَحتَاجُ إِلَيهِ الأُمَّةُ فِي جَمِيعِ مَجَالاَتِها الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ، وهُوَ مَا يُسَمَّى فِي التَّربِيَةِ الحَدِيثَةِ بـ((مُرَاعَاةِ حَاجَةِ سُوقِ العَمَلِ)) فِي إِعْدَادِ البَرَامِجِ العِلْمِيَّةِ، والتَّخْطِيطِ لِلْمنَاهِجِ التَّربَوِيَّةِ، عَلَى أَنَّ اعتِنَاءَهُ -صلى الله عليه وسلم- بِتَربِيَةِ أُمَّتِهِ لَمْ يَكُنْ مُقْتَصِراً عَلَى فِئَةٍ مِنَ الفِئَاتِ، ولاَ مَحْصُوراً فِي طَبَقَةٍ مِنَ الطَّبَقَاتِ، فَكَانَ يُعلِّمُ الصَّغِيرَ والكَبِيرَ، والرَّجُلَ والمَرأَةَ، والذَّكِيَّ وضَعِيفَ الفَهْمِ، كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ جَمِيعاً عَلَى مُختَلِفِ مُستَوَيَاتِهِمْ، وتَبَايُنِ طِبَاعِهِمْ وأَجنَاسِهِمْ، مَعَ تَنْوِيعٍ فِي صُوَرِ التَّعلِيمِ، فَتَارَةً يَكُونُ بِصُورَةٍ جَمَاعِيَّةٍ، ورُبَّما استَدْعَى الأَمْرُ أَنْ يَكُونَ بِصُورَةٍ فَرْدِيَّةٍ، فَفِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ نَقْرأُ: ((كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- جَالِساً مَعَ أَصْحَابِهِ))، ((وبَيْنَما كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-)) فَهَذَا أنْمُوذَجٌ لِلتَّعلِيمِ الجَمَاعِيِّ، وأَمَّا التَّعلِيمُ الفَردِيُّ فَنَماذِجُهُ كَثِيرَةٌ، ومِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رِضْوانُ اللهِ عَلَيْهِم-: ((أَوصَانِي -صلى الله عليه وسلم- بِكَذَا))، إِنَّها فَلْسَفَةُ التَّعلِيمِ لِلْجَمِيعِ، لِصَاحِبِ الخُلُقِ الرَّفِيعِ، والمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ البَدِيعِ -صلى الله عليه وسلم- ، وَقَدْ نَالَتِ المَرأَةُ حَظَّاً وَاسِعاً مِنَ اهتِمَامِهِ، فَحِينَ صَلَّى العِيدَ -صلى الله عليه وسلم- اتَّجَهَ إِلَى النِّسَاءِ فَوَعَظَهُنَّ وأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، وتَجَاوَزَ الأَمْرُ استِغْلاَلَ اللقِاءَاتِ العَابِرَةِ، بَل الجَمِيعُ يَأْخُذُونَ حُقُوقَهُمْ مِنَ التَّعلِيمِ بِصُورَةٍ وَافِرَةٍ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ((أنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: اِجْعَلْ لَنَا يَوْماً مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْماً لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وأَمَرَهُنَّ))، سُبْحَانَ اللهِ! يَطْلُبْنَ مِنْ أَشْرَفِ الخَلْقِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْماً دِرَاسِيّاً خَاصّاً بِهنَّ، فَيُسَارِعُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- إِلَى تَلْبِيَةِ طَلَبِهِنَّ، ويُجِيبُ بِأَروَعِ أُسلُوبٍ عَلَى أَسئلَتِهِنَّ، مَا أَرفَعَ هَذَا الخُلُقَ فِي المُعَامَلَةِ، ومَا أَرَقَّ هَذَا الحَنَانَ الأَبَوِيَّ التَّربَوِيَّ، وَصَدَقَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى حِينَ قَالَ: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)).
                          أيُّها المُسلِمُونَ :
                          إِنَّ استِعْمَالَ الوَسَائِلِ التَّعلِيمِيَّةِ مَبدأٌ مِنْ مَبَادِئ التَّعلِيمِ، وهُوَ مَنْهَجٌ مِنْ مَنَاهِجِ نَبِيِّنَا الكَرِيمِ -عَلَيْهِ مِنَ اللهِ أَفْضَلُ صَلاَةٍ وأَزكَى تَسلِيمٍ-، فَمَعَ نُدْرَةِ هَذِهِ الوَسَائِلِ فِي عَصْرِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ أَجَادَ استِخْدَامَ المُتَاحِ مِنْهَا فِي نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ، فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَخَطَّ خَطَّاً مُستَقِيماً أَمَامَهُ فَقَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللهِ))، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وخَطَّيْنِ عَنْ شِمَالِهِ وَقَالَ: ((هَذَه سُبُلُ الشَّيْطَانِ))، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الخَطِّ الأَوسَطِ وتَلاَ: ((وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))، وَمَعَ هَذَا تَمَيَّزَ المَنْهَجُ التَّربَوِيُّ النَّبَوِيُّ بِالتَّدرُّجِ فِي التَّربِيَةِ والتَّعلِيمِ، والتَّتالِي فِي التَّهْذِيبِ والتَّقوِيمِ، وَفْقاً لِلْقُدُراتِ والحَاجَاتِ، فَالتَّربِيَةُ عَلَى تَرْكِ المَنْهِيَّاتِ، قَدْ تَحتَاجُ إلى مَراحِلَ مُتَعدِّدَةٍ وكَثِيرٍ مِنَ الأَوقَاتِ، وَكَذَلِكَ الأَمْرُ فِي أَدَاءِ الوَاجِبَاتِ، فَقَدْ كَانَ -صلى الله عليه وسلم- يُتِيحُ لِكُلِّ عِبَادَةٍ الوَقْتَ الكَافِيَ لِتَعلُّمِها، إِذِ العِبَادَاتُ تَخْتَلِفُ فِي المُدَّةِ اللاَزِمَةِ لإِتْقَانِها، حَتَّى ولَوِ احتَاجَ الأَمْرُ إلى مُدَّةٍ رُبَّما تَبْدُو طَوِيلَةً، فَإِتْقَانُ العِبَادَةِ هُوَ اللائِقُ بِمَنْزِلَتِها الجَلِيلَةِ.
                          فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واقتَدُوا بِنَبِيِّكُمْ فِي تَربِيَتِكُمْ لأَنْفُسِكُمْ وأَولاَدِكُمْ، تَهنأْ بِذَلِكَ حَيَاتُكُمْ، ويُصلِحِ اللهُ مُنقَلَبَكُمْ ومَآلَكُمْ.
                          أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
                          *** *** ***
                          الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
                          أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
                          إِنَّ النَّفْسَ البَشَرِيَّةَ أَشْبَهُ بِالمَعْدِنِ الصُّـلْبِ، فَهِيَ تَحتَاجُ إِلَى تَهْيِئَةٍ صَحِيحَةٍ وَجَوْدَةِ إِعْدَادٍ لِفِعْلِ الخَيْرِ، فَالتَّهيئَةُ النَّفْسِيَّةُ تَدفَعُ الأَفْرَادَ إِلَى تَحقِيقِ أَعلَى مُعَدَّلاَتِ الإِنْجَازِ، لأَنَّها تُسْهِمُ فِي تَطْوِيعِ النَّفْسِ وتَرويضِها، ودَفْعِها لإِنْجَازِ الأَفْعَالِ التِي قَدْ تَستَثْقِلُها ولاَ تَستَسيِغُها، إِنَّها تَستَنْهِضُ هِمَمَ الأَفْرَادِ وتَجَعَلُهُمْ يُخْرِجُونَ الطَّاقَاتِ المَخْبُوءَةَ دَاخِلَهُمْ، ولَقَدْ أَتْقَنَ -صلى الله عليه وسلم- تَهْيِئَةَ النُّفُوسِ لِقَبُولِ الحَقِّ نَظَرِيّاً وَعَمَلِيّاً، فَأَنْتَجَ بِذَلِكَ مُجتَمَعاً صَالِحاً سَوِيَّاً، ومَا أَرْوَعَ تِلْكَ التَّهْيئَةَ حِينَ أَرَادَ الجَهْرَ بِدَعْوَتِهِ، بَعْدَ أَنَّ أَمَرَهُ اللهُ بإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، والصَّدْعِ بِصَادِقِ رِسَالَتِهِ، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) صَعِدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الصَّفَا؛ فَجَعَلَ يُنَادِي بُطُونَ قُرَيْشٍ حَتَّى اجتَمَعوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَستَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ فِي الأَمْرِ، فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ-: ((أَرأَيْتُمْ لَو أَخْبَرتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِبَطْنِ الوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ -أََي جَيْشٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ يُرِيدُ أَنْ يُهَاجِمَكُم- أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيّ؟)) قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيكَ كَذِباً، قَالَ: ((إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذَابٍ شَدِيدٍ))، وفِي الجَانِبِ العَمَلِيِّ مِنْ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ نَجِدُ الرَّسُولَ -صلى الله عليه وسلم- -وهُوَ القُدْوَةُ لأُمَّتِهِ- يُكْثِرُ مِنَ الصَّوْمِ فِي شَعْبانَ مَا لاَ يَصُومُ فِي غَيْرِهِ مِنْ شُهُورِ العَامِ، استِعْدَاداً لِصَوْمِ رَمَضَانَ، فَعَنْ أُمِّ المُؤمِنينَ عَائشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ، وَمَا رَأْيتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- استَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكَثَرَ صِياماً مِنْهُ فِي شَعْبَان))، وعَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النّاسُ عَنْهُ بَــيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِم))، إِنَّها عَظَمَةُ الرَّسُولِ المُرَبِّي -صلى الله عليه وسلم- ، وبَركَاتُ التَّهْيِئَةِ النَّفْسِيَّةِ التِي كَانَ يُجِيدُها بِرَوائِعِ مَنْهَجِهِ التَّربَوِيِّ.
                          فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واحْرِصُوا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا عَلَى مَا سَنَّ لَكُمْ رَسُولُهُ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الصِّيَامِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ مَطْهَرَةٌ مِنَ الآثَامِ، واقتَدُوا بِنَبِيِّكُمْ فِي تَربِيَتِهِ، والزَمُوا الاقتِفَاءَ بِنَهْجِهِ وسُنَّتِهِ، تَتَشَرَّفُوا فِي الجَنَّةِ بِمُرَافَقَتِهِ.
                          هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) .
                          اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
                          اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
                          اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.

                          اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
                          اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.

                          اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
                          اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
                          اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
                          رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
                          رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
                          رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
                          اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
                          عِبَادَ اللهِ :
                          (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).






                          ************************************************

                          www.awqafoman.net







                          تعليق

                          • سُلاف
                            مشرفة المواضيع الإسلامية
                            من مؤسسين الموقع
                            • Mar 2009
                            • 10535





                            لقطات وعبر من سيرة الفاروق رضي الله عنه






                            الخطبة الأولى
                            عباد الله، إن لهذه الأمة سلفًا، هم أبر الناس قلوبًا، وأحسنهم إيمانًا، وأقلّهم تكلفًا، سيرة كل عظيم منهم عظة وعبرة، وفي اقتفاء أثر أحدهم هداية، وفي الحياد عن طريقهم غواية. وإننا اليوم على موعد مع واحدٍ من هؤلاء العظماء، إنه رجل عاش الجاهلية والإسلام، رجلٌ غليظٌ شديد ولكن على الباطل، ورقيق حليم رحيم بالمؤمنين، وليٌ من أولياء الله، خليفة من خلفاء المسلمين، مُرقَّع الثياب ولكن راسخ الإيمان، تولى أمر المسلمين فطوى فراشه، إنه شهيد المحراب، إنه من قُتل وهو يصلي على يد من لم يسجد لله سجدة، أظنكم قد عرفتموه، إنه أبو حفص، إنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وجمعني وإياكم في زمرته.

                            سنتحدث في هذا اليوم عن سيرته العطرة وفضائله، ونستلهم من ذلك الدروس والعبر، وأول هذه الفضائل ـ يا عباد الله ـ أن الرسول عليه الصلاة والسلام يفسِّر ثلاث رؤى رآها في المنام، كلها لعمر ، وكلها صحيحة كالشمس.
                            الأولى: قال : ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّدِي، ومنها ما دون ذلك، وعُرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره))، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين)). دينه يغطيه، دينه يستره، فلا يظهر منه إلا كلّ جميل، ولا يخرج من فيه إلا كل حق.

                            الثانية: عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: ((بينا أنا نائم أُتِيت بقدح لبن، فشربت، حتى إني لأرى الريّ يخرج في أظفاري، ثم أعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب))، قالوا: فما أوّلته يَا رسولَ الله؟ قال: ((العلم)). سبحان الله! رجل اجتمع له العلم والدين، فأي رجل هو؟!

                            الثالثة: عن أبي هريرة قال: بينا نحن عند رسول الله إذ قال: ((بينا أنا نائمٌ رأيتُني في الجنة، فإذا امرأةٌ تتوضّأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فوليت مدبرًا))، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟!

                            وقال يخاطب عمر: ((والذي نفسي بيده، ما لقيَك الشيطان سَالكًا فجًا قط إلا سلَك فجًّا غير فجّك)). وسأل عمرو بن العاص رسول الله عن أحب الرجال إليه فقال: ((أبو بكر))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب)) وعدَّ رجالاً.

                            وأخبر النبي أنه كان ينزع من بئر، فجاء أبو بكر فنزع ذَنوبًا أو ذَنوبين، قال: ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر، فاستحالت في يده غربًا، فلم أر عبقريًا من الناس يفري فريه، حتى ضرب الناس بعطن. ولقد صدق الله رسوله الرؤيا، فتولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وقوي سلطان الإسلام، وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد الشام والعراق ومصر وأرمينية وفارس، حتى قيل: إن الفتوحات في عهده بلغت ألفًا وستًا وثلاثين مدينة مع سوادها، وبنى فيها أربعة آلاف مسجد.

                            قال ابن سعد في طبقاته: "إنَّ أوّل من سُمِّي بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وإنه أول من كتب التاريخ، كتبه من هجرة النبي من مكة إلى المدينة، وهو أولُ من جمع القرآن في المصحف، وهو أول من جمع الناس على قيام شهر رمضان وكتب به إلى البلدان".

                            أيها المسلمون، وإذا أردنا أن نتحدث عن سيرة عمر فبماذا وعن ماذا نتحدث؟! أنتحدث عن دينه وعلمه، أو نتحدث عن زهده وورعه وتقواه، أو عن حكمه وسياسته وعدله، أو عن شجاعته وقوته وجهاده، أم عن محافظته على سنة النبي والتمسك بها وتأديب كلّ من حاول الإحداث في الدين، أم عن سهره ومراقبته لكل ما يحدث في البلاد ومتابعته بنفسه لكل صغيرة وكبيرة؟! حقًا إنك لتحتار وأنت تتحدث عن عمر!
                            لقد كان إسلامه فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمارته رحمة، كما قال عبد الله بن مسعود: (ولقد رأيتُنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم حتى تركونا نصلي) أي: كفار قريش. والقتال هنا المضاربة باليد؛ لأن الجهاد لم يؤذَن به إلاّ بعد الهجرة. لقد أعلن عمر إسلامَه وجهر به وازداد المسلمون عزةً وقوةً بإسلامه.

                            عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إنّ الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه)). وقد قال أيضًا عن عمر رضي الله عنه: ((كان فيما خلا قبلكم من الأمة ناس مُحّدَّثون ـ أي: ملهَمون ـ، فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب)). والمحدَّث هو الملهَم، وهي منزلة جليلة من منازل الأولياء. وقد قيل عنه : ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر.
                            وقد وافق القرآن قول عمر في عدة مواقف، منها ما قاله للنبي بأن يحجب زوجاته أمهات المؤمنين، فنزل الأمر بالحجاب، وقال للنبي حينما طاف بالكعبة في العمرة: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزل قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125].
                            ولما تولى عمر الخلافة وصعد المنبر ألقى خطبته العظيمة، بيّن فيها سياسته، وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة، وسار في الناس سيرة عمرية ما سمع الناس بمثلها. كان عمر يأخذ الدنيا في يوم، ويسلمها للفقراء في يوم، تأتيه القوافل محمّلة بالغنائم والفيء والذهب والفضة على الجمال، وتدخل المدينة، وخليفة المسلمين يصلي بالناس في بردته وبها أربع عشرة رقعة تختلف بعضها عن بعض. وكان إذا هدأت العيون وتلالأت النجوم يأخذ درّته ويجوب سكك المدينة، علّه يجد ضعيفًا يساعده أو فقيرًا يعطيه أو مجرمًا يؤدّبه.
                            وبينا هو يمشي في ليلة من الليالي إذ بامرأة في جوف دارٍ لها وحولها صبية يبكون، وإذا قِدْرٌ على النار قد ملأته ماءً، فدنا عمر من الباب فقال: يا أمة الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذا القِدْرُ الذي على النار؟ قالت: قد جعلتُ فيه ماءً، هو ذا، أُعلّلهم به حتى يناموا، وأوهمهم أن فيه شيئًا، فبكى عمر، ثم جاء إلى دار الصدقة، وأخذ غِرارة، وجعل فيها شيئًا دقيقًا وشحمًا وسمنًا وتمرًا وثيابًا ودراهم حتى ملأ الغرارة، ثم قال لمولاه: يا أسلم، احمل عليّ، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك، فقال: لا أمّ لك يا أسلم، أنا أحمله، لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة، فحمله حتى أتى به منزل المرأة، فأخذ القدر، فجعل فيه دقيقًا وشيئًا من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ تحت القدر، قال أسلم: فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته، حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعمهم حتى شبعوا.

                            أيها الأحبة، كان عمرو بن العاص واليًا على مصر في زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، فقال عمر: عذت معاذًا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، لماذا يضربه؟ فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم، ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ ثم قال: خذ السوط فاضرب، فجعل المصري يضرب ابن عمرو بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب والله، فما أقلع عنه حتى تمنّينا أن يرفع عنه.، ثم قال عمر لعمرو رضي الله عنهما: منذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارً؟! قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني.
                            تلك هي عدالة عمر، وتلك مقولته الخالدة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!

                            وتستمر مسيرة عمر الخالدة، ويدخل عام الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، يموت الناس جوعًا، فحلف عمر أن لا يأكل سمينًا حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس، وكان يبكي ويقول: آلله يا عمر، كم قتلت من نفس؟ وهل قتل عمر أحدًا؟! لا والله ما قتل، وإنما أحيا الله به النفوس.
                            وقف على المنبر يوم الجمعة ببُرْده المرقّع، وأثناء الخطبة قرقر بطنه، أمعاؤه تلتهب من الجوع، فيقول لبطنه: (قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين).
                            بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...



                            الخطبة الثانية
                            عباد الله، ومن المواقف العظيمة في سيرة عمر أنه حينما أرسل كسرى مستشاره الهرمزان إلى المدينة يريد عمر لابسًا تاجًا من ذهب وزبرجد وعليه الحرير، يدخل المدينة فيقول: أين قصر الخليفة؟ قالوا: ليس له قصر، قال: أين بيته؟ فذهبوا فأروه بيتًا من طين وقالوا له: هذا بيت الخليفة، قال: أين حرسه؟ قالوا: ليس له حرس، فطرق الهرمزان الباب، فخرج ابنه، فقال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد أو في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهبوا إلى المسجد فما وجدوه، فبحثوا عنه فوجدوه نائما تحت شجرة وقد وضع درّته بجانبه وعليه ثوبه المرقع وقد توسّد ذراعه في أنعم نومة عرفها زعيم، وكأني بالهرمزان يتساءل في نفسه: أهذا عمر؟! أهذا الذي فتح الدنيا؟! هذا الذي دوّخ الملوك؟! هذا الذي داس جماجم الخونة؟! ينام تحت شجرة؟! فانهدّ الهرمزان من الدهشة وقال: حكمتَ فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.

                            وراع صاحب كسرى أن رأى عمرًا بين الرعية عُطلاً وهـو راعيهـا
                            فوق الثرى تحت ظلِّ الدوح مشتملاً ببُردةٍ كاد طول العهـد يبليهـا
                            فقال قولـة حـقّ أصبحـت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيـل يرويها
                            أمنـت لما أقمـت العـدل بينهمُ فنمت نوم قرير العيـن هانيهـا

                            وأخرج ابن سعد عن البراء بن معرور أن عمر خرج يومًا حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى شكوى، فنُعت له العسل، وفي بيت المال عُكّة، فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فهي عليّ حرام، فأذنوا له.
                            وخرج مرة في سواد الليل فرآه طلحة ، فذهب عمر فدخل بيتًا، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت وإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فقال لطلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع؟!

                            أيها الناس، هذا تاريخنا، فهل لنا تاريخ غير تاريخ عمر؟! بماذا نتكلم مع الأمم؟! بماذا نفتخر؟! بماذا نتصدى للهجوم البشع على الإسلام؟ ...



                            *****************************************


                            خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : عبد الله بن راضي المعيدي








                            تعليق

                            • سُلاف
                              مشرفة المواضيع الإسلامية
                              من مؤسسين الموقع
                              • Mar 2009
                              • 10535






                              الابتســـام عبــادة مهجــورة









                              الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا, وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا... اللهم لك الحمد خيرًا مما نقول, وفوق ما نقول, ومثلما نقول, عزّ جاهك، وجلّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك, ولا إله إلا أنت, والصلاة والسلام على من بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا
                              وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا, بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين, هدى الله به البشرية, وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

                              أمَّا بَعد: عباد الله: إن أساس العلاقة بين بني البشر مع بعضهم البعض قائمة على التعارف والتعاون والتآلف، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، وإن علاقة المسلم مع أخيه المسلم إلى جانب ذلك قائمة على التراحم والإخاء والترابط والمعاملة الطيبة والسلوك الحسن، قال تعالى مذكرًا المؤمنين بنعمته عليهم: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وقال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»

                              وهذه العلاقة إذا قامت على هذه القيم والمفاهيم وكانت خالصة لوجه الله فإن صاحبها مأجورٌ عليها ومجزيٌ بها في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لذلك حرص الإسلام على تدعيم هذه العلاقة بين المسلمين بكل الوسائل والطرق وفي جميع الأحوال والظروف، ولعل من أعظم هذه الوسائل التي تقوي علاقة المسلم مع أخيه المسلم وتجعله محبوبًا بين الناس هي إخلاص العمل لله والتقرب إليه بالأعمال الصالحة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)).

                              ومن هذه الوسائل التبسم وطلاقة الوجه؛ فالبسمة آية من آيات الله تعالى ونعمة ربانية عظيمة، إنها سحر حلال تنبثق من القلب وترتسم على الشفاه، فتنثر عبير المودة، وتنشر نسائم المحبة وتستلّ عقد الضغينة والبغضاء لتحل الألفة والإخاء، وكما قال ابن عيينة (رحمه الله ): "البشاشة مصيدة القلوب".. وأوصى ابن عمر (رضي الله عنهما) ابنه فقال: "بنيّ إن البر شيء هيّن وجه طليق وكلام ليّن"..

                              لقد أرسى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم خُلق البسمة والبشاشة، وعلّم الإنسانية هذه اللغة العالمية اللطيفة بقوله وفعله وسيرته العطرة، فكان صلى الله عليه وسلم بسّام الثغر طلق المحيى، يحبه بديهة من رآه، ويفديه من عرفه بنفسه وأهله وأغلى ما يملك ! لقد كانت تبسمه لأهله وأصحابه بذرًا طيبًا آتى أُكله ضعفين، خيرًا في الدنيا وأجرًا في الآخرة..

                              أما الخيرية العاجلة؛ فانشراح القلب وراحة الضمير، ومنافع صحية أخرى أثبتها الأطباء على البدن، ويتبعها مصالح اجتماعية وشرعية من تأليف القلوب وربطها بحبل المودة المتين وترغيبها لحب الدين، فالبسمة بريد عاجل إلى الناس كافة لا تكلفنا مؤنة مالية أو متاعب جسدية بل تبعث في ومضة سريعة يبقى أثرها الحميد عظيما في النفوس !

                              والخيرية الآجلة؛ الثواب المثبت في جزاء الصدقة وبذل المعروف، فالتبسم في وجه المسلم صدقة فاضلة يستطيعها الفقير والغني على حدّ سواء.. روى الترمذي عن "عبد الله بن الحارث" قال: "ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم".

                              وفي صحيح مسلم قال - صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" ... تلك الابتسامة التي جعلت جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ينتبه لها ويتذكرها ويكتفي بها هدية من الرسول العظيم فيقول: "ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي" (رواه البخاري).

                              فهذه الابتسامة المشرقة التي يشرق بها وجه النبي صلى الله عليه وسلم أجلّ عند جرير من كل الذكريات, وأسمى من كل الأمنيات, كانت تعلو محياه تلك الابتسامة المشرقة المعبرة، فإذا قابل بها الناس أسِر قلوبهم ومالت إليه نفوسهم وتهافتت عليه أرواحهم ..

                              والابتسامة عبادة وصدقة، فـ«تبسمك في وجه أخيك صدقة» (رواه الترمذي ) وما أكثر ما فرطنا في هذه العبادة وما أكثر ما بخلنا في هذه الصدقة، فهي السحر الحلال وهي إعلان الإخاء، وعربون الصفاء، ورسالة الود، وخطاب المحبة تقع على صخرة الحقد فتذيبها، وتسقط على ركام العداوة فتزيلها، وتقطع حبل البغضاء، وتطرد وساوس الشحناء، وتغسل أدران الضغينة، وتمسح جراح القطيعة...

                              وإذا كان نبي الله سليمان عليه السلام قد تبسم لنملة صغيرة في وادٍ مترامي الأطراف عندما سمعها تحذر قومها من جيشه كما قال تعالى (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) فما أحوجنا إلى تبسم الأخ في وجه أخيه، والجار في وجه جاره في زمن طغت فيه المادة وقلت فيه الألفة وكثرت فيه الصراعات، وما أحوجنا إلى تبسم الرجل في وجه زوجته! والزوجة في وجه زوجها في زمن كثرت فيه المشاكل الاجتماعية فلا ترى إلا عبوس الوجه وتقطيب الجبين وكأنك في حلبة صراع من أجل البقاء!!

                              وما أحوجنا إلى تلك الابتسامة من مدير في وجه موظفيه فيكسب قلوبهم ويرفع من عزائهم بعيدًا عن العنجهية والتسلط والكبرياء!!!

                              ما أحوجنا إلى البسمة وطلاقة الوجه وانشراح الصدر ولطف الروح ولين الجانب من عالم رباني منصف يسعى لجمع الكلمة ووحدة الصف، بدلاً من الفتاوى الجائرة الظالمة في نبش فتن الطائفية والمذهبية، وتوسيع هوة الخلاف والنزاع والشقاق، وتضليل الناس وتبديعهم وتفسيقهم بل والتعرض للعلماء والدعاة الربانيين بالغمز واللمز والاستطالة في أعراضهم!!

                              وما أحوجنا إلى الابتسامة الصادقة من ذلك الحاكم والمسئول في وجه من يقوم برعايتهم وخدمتهم من غير ما خداع أو كذب أو تزوير، أو وعيد أو تهديد فتحبه قلوبهم وتلهج بالثناء الحسن والدعاء له ألسنتهم!!!

                              يأتي رجل فقير من المسلمين إلى عمر بن الخطاب فقال:
                              يا عمر الخير جزيت الجنة *** اكْسُ بنياتي وأمهنه
                              وكن لنا في ذا الزمان جُنّة *** أقسم بالله لتفعلنه

                              فتبسم عمر قائلاً‏:‏ وإذا لم أفعل يكون ماذا؟ قال الرجل:
                              أبا حفص غدًا عنه لتسألنه *** يوم تكون الأعطيات منة
                              وموقف المسئول بينهنه *** إما إلى نار وإما إلى جنة

                              فخلع عمر الجلباب الذي كان يلبسه وقال: خذ هذا ليومٍ تكون الأعطيات منة.

                              عباد الله: ما أجمل أن نبتسم في وجوه الأيتام والأرامل والمعوزين والمحتاجين في أمتنا فندخل السرور إلى نفوسهم ونمد يد العون لهم ونرسم البسمة على شفاههم، وإن ذلك لمن أحب الأعمال وأعظمها أجرًا عند الله...

                              قُتل عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله عنه يوم أحد وحمل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو ملفوفٌ في ثيابه مقَطع بالسيوف، لكن في سبيل الله فأخذ ابنه جابر يبكي والصحابة يهدئونه؛ فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جابر وقال: «ابك أو لا تبك والذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعته» (رواه مسلم )، وقال صلى الله عليه وسلم لجابر يومًا بعد ذلك: «يا جابر ما لي أراك منكسرًا»! اسمع إلى التعازي والمواساة وما أحسنها! فقال جابر: "يا رسول الله، استُشهد أبي وترك عيالاً ودينًا" فقال: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: بلى، قال: ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيى أباك فكلمه كفاحًا، فقال: يا عبدي تمن عليَّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون» (صحيح الترمذي ) ، فجعل الله روحه وأرواح إخوانه في جوف طير خضر كما في الحديث: لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل المعلقة.. عند ذلك تبسم جابر..

                              ما أحوجنا إلى الابتسامة من ذلك التاجر فيكسب القلوب وتحل عليه البركة ويكثر رزقه وتدركه رحمة ربه، فقد روى البخاري دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة حيث قال: «رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى».. وفي رواية بشره بالمغفرة حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «غفر الله لرجل ممن كان قبلكم كان سهلا إذا باع سهلا إذا اشترى سهلا إذا اقتضى» (أخرجه أحمد) عن جابر‌‌) ...

                              بل يقول الصينيون في حكمة يرددونها:- "إن الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا ينبغي له أن يفتح متجرًا"، بل تقوم كثير من الدول المتقدمة والشركات العالمية بإنفاق ملايين الدولارات من أجل تدريب موظفيها على الابتسامة في وجه الزبائن والعملاء وهم بذلك يرجون ثواب الدنيا، فكيف بالمسلم عندما يتخلق بهذا الخلق فيجمع بين ثواب الدنيا والآخرة وصدق الله إذ يقول في المؤمنين: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))........

                              أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه....


                              الخطبة الثانية:

                              عباد الله: لقد أُجريت العديد من البحوث والدراسات العلمية حول الابتسامة وفوائدها الصحية والنفسية بالنسبة للإنسان فتوصلوا إلى أن الابتسامة تحفظ للإنسان صحته النفسية والبدنية، وتساعد على تخفيف ضغط الدم، وتعمل على تنشط الدورة الدموية بل وتزيد من مناعة الجسم ضد الأمراض والضغوطات النفسية والحياتية، والابتسامة تساعد المخ على الاحتفاظ بكمية كافية من الأوكسجين، ولها آثار ايجابية على وظيفة القلب والبدن والمخ وتزيد الوجه جمالاً وبهاء وتعمل على التخفيف من حموضة المعدة وزيادة إفرازات الغدد الصم مثل غدة البنكرياس والغدد الكظرية والدرقية والنخامية كما أنها تقهر الأرق والكآبة.

                              وإلى جانب هذه الفوائد الصحية للابتسامة فإنها أيضًا باب من أبواب الخير والصدقة قال صلى الله عليه وسلم: " وتبسمك في وجه أخيك لك صدقة " [ رواه الترمذي ] وهي سبب في كسب مودة الناس ومحبتهم وزرع الابتسامة على وجوههم قال صلى الله عليه وسلم: "لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه" [ رواه الحاكم ]. وفيها ترويح للنفس وإجمام للروح ودواء للهموم وذهاب للغموم: "وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة" [رواه الطبراني في الكبير]، وهي مظهر من مظاهر حسن الخلق التي يدعوا إليها الإسلام " لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق " [رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان ] وفيها تأسٍّ بسيد الخلق وأعظمهم خُلُقا وأكثرهم ابتسامة...

                              عباد الله: لقد كان رسولكم صلى الله عليه وسلم يبتسم وهو ينظر إلى مستقبل هذه الأمة وحتى وهو في منامه، فعن أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا قريبًا مني ثم استيقظ يتبسم فقلت: ما أضحكك؟، قال: "أناسٌ من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة" قالت: فادعوا الله أن يجعلني منهم فدعا لها... الحديث " [ البخاري ].

                              بل كان يعلم بالخير لأمته فيفرح لها ويستبشر ويتبسم بل ويضحك... فقد تبسم رسول صلى الله عليه وسلم رضا وارتياحًا وفرحًا، خاصة بعدما رأى ما سره مما ينتظره يوم القيامة، فعن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "أنزلت عليّ آنفًا سورة "فقرأ سورة الكوثر، ثم قال:" أتدرون ما الكوثر؟" فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال:" فإنه نهر وعدنيه ربي سبحانه وتعالى عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم".

                              بل لقد ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا وهو ينظر إلى أمته وهي في الصلاة خلف أبي بكر رضي الله عنه، وكان قد أنهكه المرض صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أمته على هذه الحالة تبسم، ‏فعن ‏أنس بن مالك ‏رضي الله عنه: ‏"أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم ‏‏الاثنين ‏وأبو بكر‏ ‏يصلي بهم فإذا برسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏قد‏ ‏كشف ستر حجرة ‏عائشة ‏فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك" لقد أراد أن يودع الدنيا وهو يبتسم ينظر إلى أمته وهي في الصلاة ومحراب العبادة فيختم بها حياته [رواه‏ البخاري]...

                              أيها المؤمنون: لنتعلم فن التبسم بصدق ولننشر ثقافة الوجه الطلق والسماحة والسعادة بيننا وفي مجتمعاتنا، ففي ذلك الضمان الأكيد لحياة سعيدة وعلاقة أخوية مترابطة، ولنتأس بأعظم رسول صلى الله عليه وسلم، ولنستشعر الأجر والمثوبة من الله سبحانه وتعالى اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ....

                              ثم اعلموا أن الله تبارك وتعالى قال قولاً كريمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وارض اللهم عن بقية الصحابة والقرابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين .... والحمد لله رب العالمين.




                              ***********************************************

                              خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : حسان أحمد العماري







                              تعليق

                              • سُلاف
                                مشرفة المواضيع الإسلامية
                                من مؤسسين الموقع
                                • Mar 2009
                                • 10535





                                المؤمن بين الخوف والرجاء








                                إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

                                أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

                                أحبتي في الله! إننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف فيه كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات، وقست فيه القلوب، وتراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقل فيه الخوف من علام الغيوب، فأردت أن أذكر نفسي وإخواني في هذا اليوم الطيب المبارك بكلمات تجمع بين الخوف والرجاء، عسى أن تدمع العيون، وتخشع القلوب، فتعود النفوس إلى الله جل وعلا. الخوف والرجاء جناحان يطير بهما المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان كريمتان يقطع بهما السالكون إلى طريق الآخرة كل عقبة كئود، فلا يقود إلى قرب الرحمن، وروض الجنان، والنجاة من النيران، إلا أجنحة الخوف والرجاء.

                                ثمرات الخوف من الله
                                قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: من خاف الله دله الخوف على كل خير، وكل قلب ليس فيه خوف الله، فهو قلب خراب. وقال الحسن البصري حينما قيل له: يا أبا سعيد ! إننا نجالس أقواماً يخوفوننا من الله جل وعلا، حتى تكاد قلوبنا أن تطير من شدة الخوف، فقال الحسن رحمه الله: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك في الدنيا حتى يدركك الأمن في الآخرة، خير من أن تصحب أقواماً يؤمنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة. نعم إخوتي الكرام! ففي الحديث الصحيح الذي رواه البيهقي في شعبه، وابن حبان في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين)، تدبر هذا الكلام أيها الحبيب! يقول ربك عز وجل في الحديث القدسي: (وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة). والخوف الحقيقي هو الذي يحول بين العبد وبين معصية الله، ويدفع العبد دفعاً إلى طاعة سيده ومولاه، فليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه ثم ينطلق ليرتكب المعاصي والذنوب، ولكن الخائف من يترك ما يخاف أن يعاقبه الله عليه، لذا فقد جعل الله الخوف منه سبحانه ثمرة حتمية لازمة للإيمان به جل وعلا، فقال عز وجل: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فالخوف من الله ثمرة حتمية للإيمان ، بل وبين ربنا جل وعلا أنه لن يتأثر بالموعظة إلا من يخشاه، قال سبحانه: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:10]، بل وبين ربنا جل وعلا أنه لن يعتبر بمصارع الظالمين، ولن يتأثر بأخذ الله للمجرمين إلا من خاف عذاب الآخرة، قال سبحانه: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:102-108] أي: غير منقطع ولا منته. إن أهل الخوف من الله جل وعلا هم أهل الجنان، وهم أهل القرب من الرحيم الرحمن، لذا فإن الله تعالى قد جمع لأهل الخوف والخشية أعلى مقامات أهل الجنان من الرحمة والعلم والهدى والمغفرة والرضوان، قال تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:154] ، وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]، وقال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:31-35]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه ممن كان قبلكم -أي: يسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب- فلما حضرته الوفاة قال لأولاده: يا أولادي! إذا مت فحرقوني، حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فاذروني -وفي لفظ في الصحيح: فاذروا نصفي في البر ونصفي في البحر- ثم قال: فلأن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال لهذا العبد: (كن) فكان، فإذا هو رجل قائم بين يديه، فقال الله له: ما حملك على أن صنعت ما صنعت؟ فقال العبد: مخافتك يا رب! أو خشيتك يا رب! فغفر الله له بذلك). إنه الخوف، وإنها ثمرة الخشية من الله، وهذه هي مكانة الخائفين عند الله جل وعلا.


                                والخوف درجات وأنواع، منه:

                                الخوف من مكر الله عز وجل
                                الخوف من مكر الله: قال تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، لا تأمن مكر الله أخي في الله! فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، كما في صحيح مسلم ، من حديث عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك). فالقلوب تتقلب، فأنت الآن على حال وبعد لحظات ربما يتحول قلبك إلى حال آخر، فلا تأمن على الإطلاق كيف يكون حال قلبك وأنت على فراش الموت، يقول الله: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، فالخوف من مكر الله مزق قلوب الصادقين، وقطع قلوب المؤمنين العارفين العالمين. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). وفي رواية سهل بن سعد الساعدي في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)، وفي لفظ البخاري : (فإنما الأعمال بالخواتيم). إخوتي الكرام! إن العبرة بالخواتيم، والخواتيم ميراث السوابق، بمعنى: أن الخواتيم نتيجة عادلة لما سبق في حياتك من أعمال الخير أو الشر. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه. إن عشت على الطاعة فيقتضي عدل الله جل وعلا أن تموت على طاعة، وأن تبعث على ذات الطاعة، وإن عشت على المعاصي فيقتضي عدل الله إن لم تتب إليه منها وتعترف له بفقرك وجرمك أن تموت على ذات المعصية، وأن تبعث يوم القيامة على ذات المعصية، فالعبرة بالخواتيم، والخواتيم ميراث السوابق. فهذا مؤذن يؤذن لله أربعين سنة لا يبتغي الأجر إلا من الله، وقبل الموت مرض مرضاً أقعده في الفراش، وعجز أن يخرج إلى بيت الله ليرفع الأذان، وقبل الموت بساعات بكى وقال: يا رب! أؤذن أربعين سنة لا أبتغي الأجر إلا منك وحدك، وأحرم من هذه النعمة قبل الموت!! اللهم يسر لي الأذان، فلما سمع الأذان خارج بيته قال لأولاده: يا أولادي! وضئوني فوضئوه، قال: أريد أن أصدع بالأذان وأن أخرج إلى المسجد، فلما أراد أن يخرج عجز عن الخروج إلى بيت الله جل وعلا فقال: أوقفوني فأوقفوه على فراشه، واتجه إلى القبلة ورفع صوته بالأذان إلى أن وصل إلى آخر كلمات الأذان، فقال: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)، وخر على فراشه ساقطاً، فأسرع إليه أولاده فإذا روحه قد خرجت مع قوله: (لا إله إلا الله). لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه. وهؤلاء مجموعة من الشباب في السعودية اصطادوا ثلاث فتيات، وخرجوا بهن إلى مكان بعيد عن أعين الناس، ولكن الله جل وعلا يسمع ويرى، فقال أحدهم: نريد الطعام والشراب لنقضي ليلة حمراء ممتعة، فقال أحدهم: أنا آتيكم بالطعام والشراب بعد لحظات، وخرج وانصرف وعليه جنابة الزنا والعياذ بالله! ولا حول ولا قوة إلا بالله، وفي الطريق انقلبت به سيارته، ولما تأخر عن رفقائه قال أحدهم للآخر: لماذا تأخر فلان؟ أنا أذهب لأنظر ماذا صنع؟ وعلى الطريق رأى سيارة تحترق وتشتعل فيها النيران، فلما دنا منها عرف أنها سيارة صديقه، فوجد صديقه في السيارة يعجز عن الخروج منها، والنار تأكله وهو يقول: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ فاقترب منه وسحبه والنار تشتعل فيه وقال له: من هذا الذي تتكلم عنه؟ فقال له: ماذا أقول لربي؟ ماذا أقول لربي غداً؟ فأنت سل نفسك أيها المسلم! وقل: ماذا سأقول لربي غداً؟ إن أتاك اليوم ملك الموت هل أنت راض عما أنت فيه من طاعة؟! عباد الله! إن أقرب غائب ننتظره جميعاً هو الموت، والموت لا يترك غنياً ولا فقيراً، ولا يترك شيخاً ولا صغيراً، ولا يترك رجلاً ولا امرأة. دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لـم ينسه الملكـان حين نسيتـه بل أثبتـاه وأنت لاه تلــعب والـروح منك وديعة أودعتهـا ستردها بالرغم منك وتسلـب وغـرور دنيـاك التي تسعى لها دار حقيقتهـا متـاع يذهب الليـل فاعلم والنهـار كلاهمـا أنفاسنا فيها تعـد وتحسـب أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، وكلما ازددت معرفة بالله كلما ازددت خوفاً من الله وخشية له، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية).

                                نماذج وصور من حياة الخائفين
                                روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسن، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أرى مالا ترون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته، ساجد لله عز وجل، ثم قال: والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الطرقات تجأرون إلى الله جل وعلا). وفي الصحيحين من حديث أنس قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة ما سمعت مثلها قط، وكان مما قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. يقول أنس : فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين). أي: لهم بكاء بصوت خافت. ومن أعجب ما قرأت في هذا: ما رواه البخاري وأحمد وغيرهما: لما مات عثمان بن مظعون وهو من سادة المهاجرين، ومن أولياء الله المتقين، وممن شهد بدراً، وأول من لقب بالسلف الصالح، وأول من دفن بالبقيع. لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقبله بين عينيه، وبكى رسول الله حتى سالت دموعه على خد عثمان بن مظعون . ولما مات قالت امرأة من الأنصار يقال لها: أم العلاء قالت: رحمة الله عليك أبا السائب رحمة الله على عثمان بن مظعون ، رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي لك أن الله قد أكرمك، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: وما يدريك أن الله قد أكرمه؟! قالت: والله لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فمن؟ أي: فمن هذا الذي سيكرمه الله إن لم يكرم عثمان بن مظعون ؟! (بأبي أنت وأمي يا رسول الله والله لا أدري فمن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين وإني والله لأرجو له الخير، ثم قال المصطفى: والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي). ولم لا يخاف خاتم الأنبياء وقد خاف من قبله الملائكة من رب الأرض والسماء؟ قال الله عز وجل: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13]، ولم لا يخاف بعد الملائكة وبعد الأنبياء المؤمنون الصالحون العارفون العالمون برب العالمين؟! هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينام على فراش الموت فيدخل عليه ابن عباس ، والحديث في صحيح البخاري ، فيقول ابن عباس : (أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، ثم صحبت خليفة رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، ثم صحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن مت اليوم فوالله إنهم عنك لراضون، فقال عمر : ذلك منٌّ منَّ الله به عليّ، ثم قال -وتدبر ما قاله عمر -: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه). انظروا يا إخوة! لتقفوا على حال قسوة قلوبنا، إننا نسمع كلاماً -ورب الكعبة- يذيب الصخور، ويفتت الرمال، ولكنك تنظر إلى كثير من القلوب وكأن أصحابها ما سمعوا شيئاً عن علام الغيوب، وعن الحبيب صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لأن قلوبنا مريضة إلا من رحم ربك جل وعلا، لم تعد الموعظة تؤثر، ولم يعد القرآن يهز القلب، ولم يعد كلام النبي عليه الصلاة والسلام يحرك الوجدان، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن القلوب في صدورنا إما مريضة وإما ميتة. قال ابن مسعود : (اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: في مجالس العلم، وعند سماع القرآن، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب؛ فإنه لا قلب لك). اللهم اشف قلوبنا وأحيها يا رب العالمين! أيها الأحبة! لقد قست القلوب وتراكمت الذنوب على الذنوب، وبَعُدَ القوم من علام الغيوب، وتجرأنا على الله وتجاوزنا شرع رسول الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذا عمر بن عبد العزيز تدخل عليه امرأته فاطمة بنت عبد الملك فتراه قابضاً على لحيته يبكي، فتقول له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! فيقول لها: يا فاطمة ! لقد وليت من أمر هذه الأمة وفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، واليتيم المكسور، والمضروب المقهور، والأرملة، والمسكين، وفي ذي العيال الكثير، وفي غيرهم وأشباههم في أقطار البلاد وأطراف الأرض، وعلمت أن خصمي دونهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا تثبت لي حجة بين يدي الله جل وعلا. وهذا سفيان الثوري ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد : أبشر يا أبا عبد الله ! إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال له سفيان : أسألك بالله يا حماد ! أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! وهذا الشافعي لما نام على فراش الموت دخل عليه المزني فقال له المزني : كيف أصبحت يا إمام؟! فقال الشافعي : أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، ولعملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، فلا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم أنشد الشافعي قائلاً: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلمـا قرنتـه بعفوك ربي كان عفوك أعظما وكان مالك بن دينار يقوم الليل يبكي للعزيز الغفار، وهو قابض على لحيته ويقول: يا رب! يا رب! لقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار ؟!

                                الخوف من عذاب الله في الآخرة
                                أيها الأحباب! ثم يأتي بعد ذلك: الخوف من عذاب الله في الآخرة، ومن منا يقوى على نار الدنيا؟ والله لا يقوى واحد منا على نار قليلة من نار الدنيا. عباد الله! هل تعلمون أن هذه النار التي إذا اشتعلت في بئر من آبار بترول، أو دمرت مصنعاً من المصانع، أو أحرقت مزرعة من المزارع، أو أبادت مدينة من المدن، ما هذه النار إلا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم؟! (ناركم هذه التي توقدون هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! والله إن كانت لكافية، قال: ولكنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها). ففي الصحيحين من حديث النعمان ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهون أهل النار عذاباً لرجل توضع في أخمص قدميه جمرتان من نار، فيغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهون أهل النار عذاباً). الخوف من عذاب الله في الآخرة مزق قلوب الصادقين العارفين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تحاجت الجنة والنار فقالت النار: يا رب! أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: يا رب! مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، فقال الله عز وجل للنار: يا نار! أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، وقال للجنة: يا جنة! أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي). فهيا أيها الأحبة الكرام! هيا إلى الجنة، هيا إلى العمل من أجل الفوز بالجنة، فإن الجنة -ورب الكعبة- فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أيها الأحباب! وبعدما رهبت هأنذا أرغب، وبعدما خوفت هأنذا أذكر بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تفتح لمثلي أبواب الرجاء في التوبة والأوبة إلى رب الأرض والسماء، وأرجئ الحديث عن الرجاء إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

                                الرجاء ثمرته وحقيقته ومعناه
                                الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وإن الله عز وجل فتح أبواب الرجاء لكل مذنب مقصر عاص ليرجع إليه؛ وليعترف بذنبه وجرمه، وهذا هو الفهم الصحيح لأحاديث الرجاء، فالرجاء مع العمل، والرجاء مع الخوف لا ينفصمان ولا ينقطعان أبداً، فالمؤمن يخشى الله ويمتثل الأمر ويجتنب النهي، ويقف عند الحد، لكنه بشر فليس ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، فربما يضعف فتزل قدمه في بؤرة المعصية، وحينئذ إن جذبت أشواك الذنوب ثيابه يقال له: اجذب ثيابك واغسلها بدموع التوبة، واعلم إن عدت إلى الله بأن الله يفتح لك أبواب الرجاء على مصراعيها. هذا هو الفهم الدقيق لأحاديث وآيات الرجاء. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. فالمؤمن الذي يحسن الظن بالله يعمل، إن أمره الله ورسوله ائتمر، وإن نهاه الله ورسوله انتهى، وإن حد له الله ورسوله حداً وقف عند حدود الله ورسوله، ثم بعد ذلك إن وقع في معصية وضعف وزلت قدمه يذكر بأحاديث الرجاء بعد آيات الرجاء، فيجد الباب مفتوحاً، وإلا فأين يذهب الفقير إلا إلى الغني؟ وأين يذهب العاصي إلا إلى الغفور؟ وأين يذهب الضعيف إلا إلى القوي؟ عبد الله! اعترف بذنبك وتقصيرك وجرمك، وعد إلى الله جل وعلا وأنت على يقين مطلق بأن الله تبارك وتعالى سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك، ويفتح لك أبواب التوبة وأبواب الرجاء على مصراعيها، ولا تسوف فإن الموت يأتي بغتة. يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلـن بمنزل ينسى الخليل به الخليـل وليركبن عليـك فيـ ـه من الثـرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليـل فلا تسوف وُعد إلى الله وتدبر هذا النداء الندي الرخي: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر الله لهم). وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا -نزولاً يليق بكماله وجلاله- ثم يقول ربنا: أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلايزال كذلك حتى يضيء الفجر). بل وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها). وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي واللفظ له من حديث أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أترون هذه الأم طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: لله أرحم بعباده من رحمة هذه الأم بولدها)، لذا قال أحد أهل العلم: اللهم إنك تعلم أن أمي هي أرحم الناس بي، وأنا أعلم أنك أرحم بي من أمي، وأمي لا ترضى لي الهلاك والعذاب، أفترضاه لي أنت وأنت أرحم الراحمين!! فيا أيها اللاهي! ويا أيها الساهي! يا من ضيعت الصلاة! يا من أكلت الربا! يا من شربت الخمر! يا من عاقرت الزنا! هيا لا تقنط ولا تيئس، وعُدْ إلى الله مهما كان ذنبك، ومهما كانت كبيرتك، عد إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك، الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.

                                شروط التوبة
                                عباد الله! اعلموا أن للتوبة شروطاً وأركاناً: أولها: الإقلاع عن المعاصي والذنوب. ثانيها: الندم، فالندم هو ركن التوبة الأعظم. ثالثها: الإكثار من العمل الصالح، والمداومة عليه، وأن نلزم طريق الجنة حتى نلقى الله جل وعلا.

                                اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا هماً إلا فرجته، ولا غماً إلا أزلته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً. اللهم أصلح أولادنا، اللهم أصلح أولادنا، اللهم رب لنا أولادنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم اجعل هذا البلد سخاءً رخاءً وجميع بلاد المؤمنين، اللهم اجعل هذا البلد سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن هذا البلد الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين. اللهم ارفع عن هذا البلد الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه ...



                                **********************************************


                                خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : محمد حسان









                                تعليق

                                مواضيع شائعة

                                تقليص

                                لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                                جاري المعالجة..
                                X