عرفت العلوم والأبحاث الزراعية في العقود الأخيرة تطورا كبيرا جدا ارتقت به الزراعة من مجرد نشاط انساني اقتصادي كان يمارَس بهدي من ضوء الفطرة ، الى علم قائم بذاته ما فتئ يحقق تقدما كبيرا على مر السنين .
ولعل أهم ثورة في مجال العلوم الزراعية كانت هي الهندسة الجينية التي ساهمت بشكل كبير في الرفع من كمية الانتاج الزراعي و التخفيف من حدة الآثار الناجمة عن تعاقب مواسم الجفاف ... خاصة في الدول المتقدمة
جل اهتمامات العلماء كانت منصبة على القضاء على مشكل المجاعة ونقص الغذاء الذي يعرفه العالم وكان هذا هو المبدأ الاساسي من اعتماد الهندسة الوراثية في علوم الزراعة
لكن الهندسة الوراثية وان كانت قد ساهمت الى حد ما في مضاعفة حجم الانتاج الزراعي الا انها لم تستطع ان تقضي على خطر المجاعة الذي يتزايد باستمرار
فالمجاعة مرتبطة بعدة عوامل أخرى غير الجفاف و أمراض النبات والحروب ...
تناقص البقع الصالحة للزراعة أمام تزايد نسبة النمو الديمغرافي مشكل آخر يقض مضاجع العلماء
من هنا ظهرت فكرة الزراعة العمودية التي تهدف الى جعل كل الفضاءات المختلفة بقعا صالحة للزراعة حتى داخل المدن والمناطق الحضرية
الفكرة ظهرت أول الأمر في هولندا بحكم افتقار هذا البلد الى نسبة كافية من المساحة الصالحة للزراعة والتي لا تتعدى
28 % من اجمالي مساحة البلد
وهي مساحة بالنظر الى عدد السكان تبقى قليلة جــــدا وغير كافية لسد احتياجات المستهلك في المجال الزراعي
وكما رأينا معا في موضوع "حدائق الحبال المعلقة" فان الهولنديون يعتبرون روادا في مجال حسن استغلال الفضاءات المختلفة وتحويلها الى حدائق أو مساحة صالحة للزراعة كيفما كان هذا الفضاء ...
ثم سرعان ما ألهمت الفكرة العديد من الدول الأخرى التي اصبحت تزاول الزراعة في مباني داخل المدن
من بين نماذج مزارع المستقبل الناجحة مزراع "PlantLab" بهولندا التي بدأت تمارس الانتاج الزراعي المتنوع منذ ما يزيد عن عشر سنوات
مزرعة متكاملة عبارة عن مبنى من عدة طوابق لا تدخلها أشعة الشمس ، تعتمد فيها النباتات في نموها على اضاءة خاصة وعلى الماء فقط
الاضاءة الخاصة يقصد بها هنا اضاءة "LED "والتي هي اختصار بالانجليزية لــ "light-emitting diode "
بالعربية يمكن لنا أن نطلق عليها "صمام ثنائي باعث للضوء" ، وهي نفس الاضاءة التي تستخدم في مصابيح المركبات و سيارت الاسعاف واشارات المرور ...
تتميز هذه الاضاءة التي تعتمد اللون الاحمر والازرق فقط دون الأخضر في توفير الضوء للنباتات ، بأنها قليلة استهلاك الطاقة الكهربائية مقارنة بالاضاءة العادية
اذ يمكن تشغيلها ببطاريات صغيرة ، لكن تجهيزاتها وتوصيلاتها لا زالت مرتفعة التكـلفة جدا
تنتج هذه المزرعة مختلف انواع الخضر والفواكه وكذا نباتات الزينة والورود ... وهي تسد الآن نسبة كبيرة من احتياجات المستهلك الهولندي
الآن بعد سنوات من بداية عمل هذه المزرعة يؤكد اصحابها ان ما حققوه من نجاح فاق كل التصورات
فاحتياج هذه النوعية من المزارع للماء أقل ب90 % من احتياج أي مزرعة عادية بالهواء الطلق
إذ أن الماء الذي تسقى به النباتات يعاد تدويره ليستعمل مرة أخرى
وكمثال على هذا فان كيلو غرام واحد من الطماطم في حقل زراعي يحتاج الى 60 ليترا من الماء( قد تختلف هذه النسبة من منطقة الى أخرى )
بينما في المزارع العمودية لا يتطلب الا ربع ليتر واحد فقط !
اما المساحة اللازمة لانتاج ما يعادل مثلا 200 غراما من أي محصول زراعي للفرد الواحد يوميا فهي لا تتعدى 100 متر مربعة ، نظرا لوجود عدة طوابق بالمبنى تمكن من استغلال المساحة عدة مرات
تظل هناك عموما عدة ايجابيات تتميز بها مزارع الجيل الجديد هذه خاصة من حيث حجم الانتاج الذي يفوق الصوب الزراعية التقليدية بثلاثة أضعاف
كما توفر على المزراع نفقات النقل والتوصيل الى المستهلك ، لان الزراعة هنا ستكون داخل المدار الحضري
أما المكافحة الكيماوية فتظل غير واردة في المزارع العمودية الداخلية الا على مستوى ضعيف جدا نظرا لما يُوفر للنبات من ظروف مثالية للنمو لا تتوفر دائما في المزارع الخارجية
هذا علاوة على التسريع من وتيرة نمو النبات ، وتقليص المدة اللازمة من أجل الوصول الى مرحلة الإثمار الى ما يفوق النصف أحيانا
وهذا بفضل توفير الاضاءة اللازمة للنبات على مدار اليوم بطوله مع مراعاة ساعات الراحة اللازمة لنمو النبتة
ان انشاء المزارع العمودية سوف يساهم بشكل لا بأس به في الحد من تناقص المساحة الغابوية الذي يتزايد سنويا ، وبالتالي الحفاظ على التنوع البيولوجي نظرا لأن هذه الغابات تعد الموئل لمختلف انواع الحيوانات والطيور والحشرات ...
هذا ولا يمكن اغفال جانب المساوئ أو الآثار الجانبية لهذا النوع من المزارع
لكنني للأمانة لم أستطع حتى الساعة أن أقف على تقرير علمي يمكن الوثوق به للحديث في هذه النقطة ، ويظل للحديث بقية ان وفقني اللــــه
تعمل "PlantLab" الآن على توسيع مجال نشاطها الزراعي الى مجال الانتاج الحيواني كذلك بنفس المنوال
حيث من المتصور انشاء مبنى مكون من طوابق عديدة تخصص الطوابق السفلى منه لاقامة احواض تربية الأسماك
والباقي لتربية الدواجن وانتاج البيض وكذا لتحويل مخلفاتها والاستفادة منها في تسميد النباتات و تصنيع أعلاف الأسماك
و جدير بالذكر ان الولايات المتحدة كذلك تعمل حاليا على انشاء أول مزرعة ناطحة سحاب بالعالم ...
****************************************
مصادر الموضوع
تعليق