لعل من أول ما تلقيناه بالمدرسة ونحن صغار عن السيرة النبوية الشريفة هو حديث العنكبوت والحمامة الأشهر على الإطلاق بين أحداث الهجرة النبوية التي تناقلها المسلمون فيما بينهم منذ بدء كتابة التاريخ الاسلامي الى يومنا هذا
فما رأيكم إذن لو قلت لكم ان حديث العنكبوت والحمامة حديث غير ثابت وأن هذه المعجزة لا تصح لها رواية ولا يستقيم لها سند ولذلك فانه لا يتوجب علينا تصديقها ولا الايمان بها ؟
اتفق جمهور علماء المسلمين ومحدثيهم على ان جميع طرق هذا الحديث ضعيفة معلولة ، تارة بضعف الرواة وتجريحهم ، وتارة بانقطاع السند انقطاعا لا ينجبر ولا يشتد
و الأهم من هذا كله ان هذه الرواية تخالف نص القرآن الصريح كما سنرى بعد قليل
حديث العنكبوت والحمامة روي بصيغ كثيرة لعل أشهرها هو الحديث الذي رواه غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسيره لقوله عز وجل : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) قَالَ :{ تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ اقْتُلُوهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ أَخْرِجُوهُ . فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ ، فَقَالُوا : أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي . فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ خُلِّطَ عَلَيْهِمْ ، فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ فَمَرُّوا بِالْغَارِ ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ ، فَقَالُوا : لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ . }
هذا الحديث روي من مجموعة من الطرق كلها ضعفها و ردها علماء الحديث ما عدا طريق واحدة حسنها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية وقال : هذا اسناد حسن وهو أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار وذلك من حماية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
وكذا حسنها الحافظ ابن حجر في فتح الباري وقال : وذكر أحمد من حديث ابن عباس باسناد حسن ... وذكر الحديث
اما باقي الطرق باسانيدها المتعددة فلا يوجد من قبلها من العلماء لضعفها وعدم وجود شواهد تقويها
اما الجزء الثاني من القصة والذي يتعلق بخبر بيض الحمامتين والشجرة التي نمت على فم الغار فلا يوجد أحد قط من العلماء نص على ثبوته ولا توجد له رواية بالسنة النبوية ولا بالتاريخ الاسلامي
بل هذا من التلفيقات التي أضيفت لخبر نسج العنكبوت والتي ساعد على اشتهارها بين الناس ما تدوول بينهم من قصائد المديح النبوي التي شدا بها الشعراء والمادحون كما يقول الشيخ القرضاوي بارك الله بعمره : { ان ما اشتهر من أن النبي عليه الصلاة والسلام حين اختفي في الغار عند الهجرة من المدينة جاءت حمامتان فباضتا على فم الغار كما أن شجرة نبتت ونمت فغطت مدخل الغار فهذا ما لم يأت به حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف .
أما نسج العنكبوت على الغار فقد جاءت به رواية حسنها بعض العلماء وضعفها آخرون وظاهر القرآن يدل على ان الله تعالى أيد رسوله يوم الهجرة بجنود غير مرئية كما قال تعالى:
" وأيده بجنود لم تروها "
والعنكبوت والحمام جنود مرئية ، ولا شك أن النصر بجنود غير مشاهدة أقوى في الدلالة على القدرة الإلهية والعجز البشري واشتهرت هذه الخوارق بين جمهور المسلمين بسبب المدائح النبوية للمتأخرين }
و يقول الشيخ الألباني رحمه الله : {واعلم أنه لا يصح حديث في عنكبوت الغار والحمامتين على كثرة ما يذكر ذلك في بعض الكتب والمحاضرات التي تلقى بمناسبة هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فكن من ذلك على علم }
وقال في موضع آخر أيضا من السلسلة الضعيفة :{ ثمَّ إنَّ الآية المتقدمة ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ فيها ما يُؤكِّد ضعف الحديث؛ لأنَّها صريحة بأنَّ النَّصر والتأييِّد إنَّما كان بجنودٍ لا تُرىٰ، والحديث يُثبت أنَّ نصره صلى الله عليه وسلم كان بالعنكبوت، وهو مما يُرىٰ
والأشبه بالآية أنَّ الجنود فيها إنَّما هم الملائكة، وليس العنكبوت ولا الحمامتين؛ ولذٰلك قال البغوي في تفسيره للآية: وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته }
وقال الشيخ ابن العثيمين في شرحه لحديث الغار عند قول ابي بكر رضي الله عنه : نظرت إلى أقدام المُشركين في الغارِ وهم على رؤوسنا فقلتُ: يا رسول الله لو أن أحدَهم نَظر تَحت قدميهِ لأَبصَرَنا فقال:" ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما" متفق عليه.
قال العلامة الشيخ العثيمين رحمه الله في شرحه لهذا الحديث :
{ في هذه القصة دليل على كمال توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه وأنه معتمد عليه ومفوض إليه أمره وهذا هو الشاهد من وضع هذا الحديث في باب اليقين والتوكل.
وفيه دليل: على أنَّ قصة نسج العنكبوت غير صحيحة فيما يوجد في بعض التَّواريخ أن العنكبوت نسجت على باب الغار وأنَّه نبت فيه شجرة، وأنَّه كان على غصنها حمامة، وأن المشركين لما جاءوا إلى الغار قالوا: هذا ليس فيه أحد فهذه الحمامة على غصن شجرة على بابه، وهذه العنكبوت قد عشَّشت على بابه... كل هذا لا صحة له، لأن الذي منع المشركين من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر ليست أمورا حسية تكون لهما ولغيرهما، بل هي أمور معنوية ، وآية من آيات الله عز وجل }
وهكذا يتبين لنا أن هذه الواقعة المشهورة في تاريخ السيرة النبوية ليس لها أصل ثابت مقبول عند علماء ومحققي الحديث النبوي الشريف بالرغم من شهرتها التي فاقت الوصف
ومن العلماء من يشدد على عدم جواز روايتها وانه لا يجب تصديق ما يروى من الخوارق والمعجزات الا ما جاء ذكره في القرآن الكريم او السنة النبوية الصحيحة
بينما بعضهم بالرغم من تأكيده لضعفها فلا يرى بأسا وحرجا في روايتها والتحديث بها من باب التساهل في أحاديث الفضائل
والحقيقة انه قد أحاطت بموضوع الهجرة النبوية الشريفة بعض الأخبار الضعيفة والتي وصفها أهل الحديث بأنه في إسنادها نظر لكنهم مع ذلك قبلوها اما لتعاضدها بروايات اقوى منها أو لتعدد طرقها او لكون ضعفها خفيفا قابلا للتحسين ... او لتساهلهم في احاديث الفضائل والمغازي على عكس احاديث الأحكام
من بين الأخبار المشهورة لدى الناس في حادثة الهجرة النبوية نشيد{ طلع البدر علينا } الذي روت لنا كتب السيرة والتاريخ الاسلامي ان الأنصار وأهل المدينة النبوية قد استقبلوا به النبي صلى الله عليه وسلم عند دخوله الى المدينة
والواقع كما تشهد به كتب السنة ودواوينها انه لا يوجد أصل صحيح لهذه الانشودة ولعلها أنشدت في موضع آخر ومتأخر عن حادثة الهجرة النبوية بعدة سنوات يرجح بعض العلماء انه كان بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك
والدليل اضافة ً الى عدم وجود رواية صحيحة لها هو كلمات النشيد نفسها التي تتحدث عن" ثنيات الوداع" والتي هي مكان كان مخصصا لتوديع الحجاج واختلف اصلا في موقعه هل هو في المدينة النبوية من طريق الجنوب ام من طريق القادم من الشام
ووقتها لم يكن التكليف بالحج قد نزل ولم يفرض الحج الا في السنة التاسعة للهجرة كما هو معلوم للجميع
كذلك تسمية "المدينة" بالنشيد والتي كانت تسمى قبل الهجرة النبوية بيثرب ، ولم يتم تغيير اسمها الى المدينة الا بعد نزول النبي صلى الله عليه وسلم بها ...
و يرى العلماء ان التشديد في منع انشاد هذه الأبيات فيه الكثير من التضييق لكون الأنشودة تتغنى بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد لـُقنها اطفالنا ونشأوا على عشقها والتغني بها حتى وان لم تثبت بالأسانيد الصحيحة ، فإن مثل هذه الأحداث تكفي روايتها وشهرتها بين أهل العلم
ثم إن القصة لم تتضمن نسبة هذه الأبيات إلى معين من الصحابة ، وإنما تنسبها للنساء والصبيان فلا ضير من روايتها والتحديث بها
والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على نبينا ومولانا خير الصلاة وأفضل وأزكى السلام
تعليق