﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾
مع آية من كتاب الله عزوجل جمع الله فيها الخير لنبيه محمداً صلى الله عليه وسلم جمع له فيها محاسن الأخلاق وأمره بها:﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [[1]]
فالأخلاق الكريمة تبوأت مكانة عالية ودرجة رفيعة في دين الله عز وجل , حيثُ دعا إليها وحبب الناسَ فيها وجعلها محوراً من أهم محاور الرسالة العظيمة , رسالة الإسلام . فالخُلق الحسن يدلُ علي إيمان قوي بالله وعقيدة صحيحة وفطرة نقية وقلب سليم , وقد تحلي بالأخلاق الكريمة والفضائل المثالية ختام المرسلين وانعقدت تاجاً علي جبينه الأنور فازدان بها وازدانت به قال له ربه : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [[2]]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :﴿إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ﴾ [[3]] فالدين خيرٌ كُله , فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين
[[4]] وقد قسَّم الله الأخلاق كما قسَّم الأرزاق , فأعطي الدنيا من أحب ومن لم يُحب , ولكنه عز وجل لم يُعط الدين إلا لمن أحب .
وقد جمع الله عز وجل محاسن الأخلاق كلها في قوله تعالي : ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [[5]] , هذه الآية يقول عنها الإمام جعفر الصادق [[6]] بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين [[7]] بن الإمام الحسين : ﴿ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ﴾ [[8]] . في هذه الأية : ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [[9]]أمرٌ من الله عز وجل بالعفو والصفح والحلم واللين والتواضع وقبول الأعذار والإعراض عن مجاراة السفهاء وعدم مقابلة الإساءة بمثلها
رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم :﴿مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟﴾ فَقَالَ : " لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّيَ" فَذَهَبَ فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ:" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ".
فَنَظَمَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
مَكَارِمُ الأخلاق في ثلاثــــــــــــة ومـــمن كَمُلَتْ فِيهِ فَذَلِكَ الْفَتَى
إِعْطَاءُ مَنْ تَحْرِمُهُ وَوَصْلُ مَــــــنْ تَقْطَعُهُ وَالْعَفْوُ عَمَّنِ اعْتَـــــــدَى
مَكَارِمُ الأخلاق في ثلاثــــــــــــة ومـــمن كَمُلَتْ فِيهِ فَذَلِكَ الْفَتَى
إِعْطَاءُ مَنْ تَحْرِمُهُ وَوَصْلُ مَــــــنْ تَقْطَعُهُ وَالْعَفْوُ عَمَّنِ اعْتَـــــــدَى
ولا يستطيعُ مقابلةُ الإساءة بالإحسان إلا أولو العزم من ذوي الصبر , ذوي الإيمان الكامل , ذوي الحظ العظيم : ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [[11]]
رُوي أنه لما نزلت هذه الآية: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [[12]]قال النبيُ صلى الله عليه وسلم : ﴿كيف يارب بالغضب ؟؟! ﴾ [[13]]
فبمجرد شعور الإنسان بالإساءة من أحد فإنّ الشيطان يوسوس له أن يبطش بمن أساء إليه أو علي الأقل يرد الإساءة بمثلها , لذا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ﴿كيف يارب بالغضب ؟؟! ﴾ أنزل الله عز وجل قرآناً : ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [[14]] . والشيطان كما هو معلوم لن يترك الفرصة تفوت دون أن يوسوس , ولن يترك هذا الموقف دون أن يستغله , ولكن المتقين , وهم قلوبهم متصلة بربهم لأنهم من أهل الذكر الذين إذا مسهم طائفٌ من الشيطان فأعماهم ولو لفترة قصيرة تذكروا ربهم عز وجل فعادوا إليه : ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [[15]] .
و : ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ^ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [[16]] .
وقد وعد الله الكاظمين الغيظ بجنةٍ عرضها السماوات والأرض : ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ^ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [[17]] . وعن أنسرضي الله عنه أن النبيصلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون فقال: ﴿ما هذا ؟ ﴾ قالوا : فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه قال : ﴿أفلا أدلكم على من هو أشد منه رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه﴾ [[18]]
وفي مناسبة هذه الآية : ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [[19]]أن طائف الشيطان قد يُفسر بالغضب كما رد وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :﴿ ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب﴾ [[20]]
ومنهم من فسره بإصابة الذنب والمعصية ...
نعود للآية : ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [[23]] وتأمل ما رُوي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الباهلي، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ﴿أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ﴾ [[24]]
************************************************** ****************
الهوامش :
[1] . الأعراف : 199
[2] . القلم : 4
[3] . السنن الكبري للبيهقي - برقم : 20782 – وقال : كَذَا رُوِيَ , عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ , وقال ابن عبد البر هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة مرفوعاً منها ما أخرجه أحمد في مسنده والخرائطي في أوّل مكارم الأخلاق من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ صالح الأخلاق ورجاله رجال الصحيح وللطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن جابر مرفوعاً بلفظ إن الله بعثني تمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال.
[4] .من كلام للغزالي رحمة الله عليه
[5] . الأعراف : 199
[6] . الإمام جعفر الصادق (148 هـ)
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الإمام الصادق شيخ بني هاشم أبو عبد الله القرشي الهاشمي العلوي المدني أحد الأعلام. وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ولذلك كان يقول: ولدني أبو بكر مرتين. روى عن جده لأمه القاسم بن محمد وأبيه أبي جعفر محمد بن علي والزهري ومحمد بن المنكدر وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح وآخرين. روى عنه السفيانان وشعبة والدراوردي ومالك بن أنس وحفص بن غياث وطائفة. عن أبي حنيفة قال : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد. وقال ابن معين: جعفر بن محمد ثقة مأمون. المصادر : السير (6/ 255 - 270) وتاريخ خليفة (424) والجرح والتعديل (2/ 487) ومشاهير علماء الأمصار (127) وحلية الأولياء (3/ 192 - 206) ووفيات الأعيان (1/ 327 - 328) وتهذيب الكمال (5/ 74 - 97) وتذكرة الحفاظ (1/ 166 - 167) وميزان الاعتدال (1/ 414 - 415) وشذرات الذهب (1/ 220).
[7] . الإمام زيد بن علي زين العابدين : ابن الحسين (عم جعفر الصادق) من كبار علماء آل البيت وصلحائهم، رُوي عنه في كتاب (الحور العين) لنشوان الحميري ص 185 أن الشيعة لما قالوا له في أبي بكر وعمر «إن برئت منهما وإلا رفضناك» فقال لهم - رضي الله عنه -: الله أكبر، حدثني أبي أن رسول الله (قال لعلي - عليه السلام -: «إنه سيكون قوم يدّعون حبنا، لهم نبز يعرفون به، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون». اذهبوا فأنتم (الرافضة)!. المصدر : مختصر التحفة الاثني عشرية وهو كتاب ( ألّف أصله باللغة الفارسية: علامة الهند شاه عبد العزيز غلام حكيم الدهلوي , نقله من الفارسية إلى العربية: (سنة 1227 هـ) الشيخ الحافظ غلام محمد بن محيي الدين بن عمر الأسلمي , اختصره وهذبه: (سنة 1301 هـ) علامة العراق محمود شكري الألوسي , حققه وعلق حواشيه: محب الدين الخطيب
[8] . تفسير القرطبي : سورة الأعراف - اية : 199
[9] . الأعراف : 199
[10] . فصلت : 34 - 35
[11] . فصلت : 35
[12] . الأعراف : 199
[13] . ابن كثير 2/ 278
[14] . الأعراف : 200
[15] . الأعراف : 201
[16] . آل عمران : 135 - 136
[17] . آل عمران : 133 - 134
[18] . رواه البزار (13/ 475)، والخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (1/ 329) (52). قال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 71): فيه شعيب بن بيان وعمران القطان، وثقهما ابن حبان وضعفهما غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. وحسن سنده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3295).
[19] . الأعراف : 201
[20] . مسند الإمام أحمد ابن حنبل
[21] . الرَّحْمَنِ: 46
[22] . ذَكَرَه الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَمْرِو بْنِ جَامِعٍ مِنْ تَارِيخِهِ
[23] . الأعراف : 199
[24] . أخرجه البيهقي في شعب الإيمان –( رقم : 4867 – جزء : 7 – صفحة : 193 ) وأيضا في نفس المصدر ( 7653 – 10 – 376 )وفي السنن الكبري ( 7653 – 10 – 376 )
تعليق